– ٢ – كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ
– ٣ – اتَّبِعُوا مَآ أَنزَلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دونه أوليآء قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ
تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالْحُرُوفِ وَبَسْطُهُ وَاخْتِلَافُ النَّاسِ فِيهِ، قال ابن جرير عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ﴿المص﴾: أَنَا اللَّهُ أَفْصِلُ، ﴿كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ﴾ أَيْ هَذَا كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ أَيْ مِنْ رَبِّكَ، ﴿فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ﴾ شَكٌّ مِنْهُ، وَقِيلَ: لَا تَتَحَرَّجْ بِهِ فِي إبلاغه والإنذار به، ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾، وَلِهَذَا قال: ﴿لِتُنذِرَ بِهِ﴾ أي أنزلناه إِلَيْكَ لِتُنْذِرَ بِهِ الْكَافِرِينَ ﴿وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُخَاطِبًا لِلْعَالَمِ: ﴿اتَّبِعُوا مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ أَيِ اقْتَفُوا آثَارَ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي جَاءَكُمْ بِكِتَابٍ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَبِّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكِهِ، ﴿وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ﴾ أَيْ لَا تَخْرُجُوا عَمَّا جَاءَكُمْ بِهِ الرَّسُولُ إِلَى غَيْرِهِ فَتَكُونُوا قَدْ عَدَلْتُمْ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ إِلَى حُكْمِ غَيْرِهِ، ﴿قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ﴾، كَقَوْلِهِ: ﴿وَمَآ أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾، وَقَوْلِهِ: ﴿وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ الله﴾، وَقَوْلِهِ: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾.
– ٥ – فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ
– ٦ – فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ
– ٧ – فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ
يَقُولُ الله تَعَالَى: ﴿وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا﴾ أَيْ بِمُخَالَفَةِ رسلنا وتكذيبهم فأعقبهم ذلك خزي الدينا مَوْصُولًا بِذُلِّ الْآخِرَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ به يستهزئون﴾، وكقوله: ﴿فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ﴾، وقال تعالى:
فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ﴾،
وَقَوْلُهُ: ﴿فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَآ إِلاَّ أَن قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾ أَيْ فَمَا كَانَ قَوْلُهُمْ عِنْدَ مَجِيءِ الْعَذَابِ إِلَّا أن اعترفوا بذنوبهم وأنهم حقيقون بهذا، كقوله تَعَالَى: ﴿وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً – إلى قوله – خَامِدِينَ﴾، قال ابْنُ جَرِيرٍ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ الدَّلَالَةُ الْوَاضِحَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرِّوَايَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قال: «مَا هَلَكَ قَوْمٌ حَتَّى يُعْذِرُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ»، وَقَوْلُهُ: ﴿فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ﴾ الْآيَةَ، كَقَوْلِهِ: ﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَآ أَجَبْتُمُ المرسلين﴾، وَقَوْلِهِ: ﴿يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ؟ قَالُواْ: لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب﴾ فيسأل الله الأمم يوم القيامة عَمَّا أَجَابُوا رُسُلَهُ فِيمَا أَرْسَلَهُمْ بِهِ، وَيَسْأَلُ الرُّسُلَ أَيْضًا عَنْ إِبْلَاغِ رِسَالَاتِهِ، وَلِهَذَا قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ ﴿فَلَنَسْأَلَنَّ الذين أُرْسِلَ إليهم ولنسئلن المرسلين﴾ قال: عما بلغوا.
وعن ابْنِ عُمَرَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته فالإمام يسأل عن رعيته وَالرَّجُلُ يُسْأَلُ عَنْ أَهْلِهِ وَالْمَرْأَةُ تُسْأَلُ عَنْ بَيْتِ زَوْجِهَا وَالْعَبْدُ يُسْأَلُ عَنْ مَالِ سَيِّدِهِ»، ثم قرأ: ﴿فلنسئلن الذين أرسل إليهم ولنسئلن المرسلين﴾ (رواه ابن مردويه، وهو مخرج في الصحيحين بدون زيادة قوله ثم قرأ الآية)، وقال ابن عباس في قوله: ﴿فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ﴾ يُوضَعُ الْكِتَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ، ﴿وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ﴾ يَعْنِي أَنَّهُ تَعَالَى يُخْبِرُ عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَا قَالُوا وَبِمَا عَمِلُوا مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ وَجَلِيلٍ وَحَقِيرٍ، لِأَنَّهُ تَعَالَى الشهيد عَلَى كُلِّ شَيْءٍ لَا يَغِيبُ عَنْهُ شَيْءٌ، وَلَا يَغْفَلُ عَنْ شَيْءٍ بَلْ هُوَ الْعَالِمُ بِخَائِنَةِ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ﴿وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مبين﴾.
– ٩ – وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَظْلِمُونَ
يَقُولُ تعالى: ﴿وَالْوَزْنُ﴾ أَيْ لِلْأَعْمَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴿الْحَقُّ﴾ أَيْ لا يظلم تعالى أحدًا، كقوله: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وكفى بِنَا حاسبين﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أجرًا عظيمًا﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضية﴾، وقال تعالى: ﴿فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ﴾.
يَقُولُ تَعَالَى: مُمْتَنًّا عَلَى عَبِيدِهِ فِيمَا مكَّن لَهُمْ مِنْ أَنَّهُ جَعَلَ الأرض قَرَارًا، وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهُمْ فِيهَا مَنَازِلَ وَبُيُوتًا، وأباح لهم مَنَافِعَهَا وَسَخَّرَ لَهُمُ السَّحَابَ لإِخراج أَرْزَاقِهِمْ مِنْهَا، وجعل لهم فيها ﴿مَعَايِشَ﴾ ْ أي مكاسب وأسبابًا يكسبون بها ويتجرون فِيهَا وَيَتَسَبَّبُونَ أَنْوَاعَ الْأَسْبَابِ، وَأَكْثَرُهُمْ مَعَ هَذَا قليل الشكر على ذلك، كقوله: ﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾.
يُنَبِّهُ تَعَالَى بَنِي آدَمَ فِي هَذَا الْمَقَامِ عَلَى شَرَفِ أَبِيهِمْ آدَمَ، وَيُبَيِّنُ لَهُمْ عَدَاوَةَ عَدُوِّهِمْ إِبْلِيسَ وَمَا هُوَ مُنْطَوٍ عَلَيْهِ مِنَ الْحَسَدِ لَهُمْ وَلِأَبِيهِمْ آدَمَ لِيَحْذَرُوهُ وَلَا يَتَّبِعُوا طَرَائِقَهُ، فَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسجدوا لآدم فسجدوا﴾،
هذا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلآئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ﴾، وَذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا خَلَقَ آدَمَ عليه السلام بِيَدِهِ مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ وَصَوَّرَهُ بَشَرًا سويًا وَنَفَخَ فِيهِ مِن روحه، أمر الملائكة بالسجود له تعظيمًا لشأن الله تَعَالَى وَجَلَالِهِ، فَسَمِعُوا كُلُّهُمْ وَأَطَاعُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لم يكن من الساجدين، والمراد بِذَلِكَ كُلِّهِ آدَمُ عليه السلام، وَقَالَ سُفْيَانُ الثوري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ﴾ قَالَ: خُلِقُوا فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ وَصُوِّرُوا فِي أَرْحَامِ النِّسَاءِ (رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شرطهما ولم يخرجاه)، ونقل ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَيْضًا أَنَّ المراد ﴿بخلقناكم﴾ ثم ﴿صَوَّرْنَاكُمْ﴾ الذرية، وقال أَيْ خَلَقْنَا آدَمَ ثُمَّ صَوَّرْنَا الذُّرِّيَّةَ، وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ قَالَ بَعْدَهُ: ﴿ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ﴾، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ آدَمُ، وَإِنَّمَا قِيلَ ذَلِكَ بِالْجَمْعِ لِأَنَّهُ أَبُو الْبَشَرِ، كَمَا يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لِبَنِي إسرائيل الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ ﷺ ﴿وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى﴾، المراد آباؤهم الذين كانوا في زمن موسى وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ ذَلِكَ مِنَّةً عَلَى الْآبَاءِ الَّذِينَ هُمْ أَصْلٌ، صَارَ كَأَنَّهُ وَاقِعٌ عَلَى الأبناء، وهذا بخلاف قوله: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ﴾
وَصَحَّ هَذَا لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ الْجِنْسُ لَا مُعَيَّنًا، والله أعلم.
قال بعض النحاة (لا) هنا زائدة، زِيدَتْ لِتَأْكِيدِ الْجَحْدِ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: (مَا إِنْ رَأَيْتُ وَلَا سَمِعْتُ بِمِثْلِهِ)، فَأَدْخَلَ (إِنْ) وَهِيَ لِلنَّفْيِ عَلَى (مَا) النَّافِيَةِ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ، قَالُوا: وكذا هنا ﴿ما منعك أن لا تَسْجُدَ﴾ مَعَ تَقَدُّمِ قَوْلِهِ: ﴿لَمْ يَكُنْ مِنَ الساجدين﴾، واختار ابن جرير أن ﴿مَنَعَكَ﴾ مضمن معنى فعل آخر تقديره: ما ألزمك واضطرك أن لا تسجد إذ أمرتك ونحو هذا، وَهَذَا الْقَوْلُ قَوِيٌّ حَسَنٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُ إِبْلِيسَ لَعَنَهُ اللَّهُ: ﴿أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ﴾ مِنَ الْعُذْرِ الَّذِي هُوَ أَكْبَرُ مِنَ الذَّنْبِ، كَأَنَّهُ امْتَنَعَ مِنَ الطَّاعَةِ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَرُ الْفَاضِلُ بِالسُّجُودِ لِلْمَفْضُولِ، يَعْنِي لَعَنَهُ اللَّهُ (وَأَنَا خَيْرٌ مِنْهُ فَكَيْفَ تَأْمُرُنِي بِالسُّجُودِ لَهُ)؟ ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْهُ بِأَنَّهُ خُلِقَ مِنْ نَارٍ وَالنَّارُ أَشْرَفُ مِمَّا خَلَقْتَهُ مِنْهُ وَهُوَ الطِّينُ، فَنَظَرَ اللَّعِينُ إِلَى أَصْلِ الْعُنْصُرِ وَلَمْ يَنْظُرْ إِلَى التَّشْرِيفِ الْعَظِيمِ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُوحِهِ، وَقَاسَ قِيَاسًا فَاسِدًا فِي مُقَابَلَةِ نَصِّ قَوْلِهِ تعالى: ﴿فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ﴾ فشذ من بين الملائكة لترك السجود، فلهذا أبلس مِنَ الرحمة أي أويس مِنَ الرَّحْمَةِ،
فَأَخْطَأَ قَبَّحَهُ اللَّهُ فِي قِيَاسِهِ، وَدَعْوَاهُ أَنَّ النَّارَ أَشْرَفُ مِنَ الطِّينِ أَيْضًا، فَإِنَّ الطِّينَ مِنْ شَأْنِهِ الرَّزَانَةُ وَالْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ وَالتَّثَبُّتُ، وَالطِّينُ مَحَلُّ النَّبَاتِ وَالنُّمُوِّ وَالزِّيَادَةِ وَالْإِصْلَاحِ، وَالنَّارُ مِنْ شَأْنِهَا الْإِحْرَاقُ وَالطَّيْشُ وَالسُّرْعَةُ، وَلِهَذَا خان إبليس عنصره ونفع آدم عنصره بالرجوع وَالْإِنَابَةِ وَالِاسْتِكَانَةِ وَالِانْقِيَادِ وَالِاسْتِسْلَامِ لِأَمْرِ اللَّهِ وَالِاعْتِرَافِ وَطَلَبِ التَّوْبَةِ وَالْمَغْفِرَةِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «خُلِقت الملائكةُ مِنْ نُورٍ وَخُلِقَ إِبْلِيسُ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لكم» (رواه مسلم بهذا اللفظ)، وعن عَائِشَةَ قَالَتْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «خُلِقت الملائكةُ مِنْ نُورٍ وَخُلِقَ إِبْلِيسُ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لكم» (رواه مسلم بهذا اللفظ)، وعن عَائِشَةَ قَالَتْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «خَلَقَ اللَّهُ الملائكةُ مِنْ نُورِ الْعَرْشِ، وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وصف لكم» (رواه ابن مردويه)، وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي غَيْرِ الصَّحِيحِ: «وَخُلِقَتِ الْحُورُ الْعِينُ مِنَ الزَّعْفَرَانِ». وَقَالَ الحسن: قاس إبليس وهو أول من قاس، وعن ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ قَاسَ إِبْلِيسُ، وَمَا عُبِدَتِ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ إِلَّا بِالْمَقَايِيسِ. إِسْنَادٌ صحيح أيضًا.
– ١٤ – قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ
– ١٥ – قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ
يَقُولُ تَعَالَى مُخَاطِبًا لِإِبْلِيسَ بأمرٍ قَدَرِيٍّ كَوْنِيٍّ ﴿فَاهْبِطْ مِنْهَا﴾ أَيْ بِسَبَبِ عِصْيَانِكَ لِأَمْرِي وَخُرُوجِكَ عَنْ طَاعَتِي فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا، قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْجَنَّةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى الْمَنْزِلَةِ الَّتِي هُوَ فِيهَا فِي الْمَلَكُوتِ الأعلى ﴿فاخرج إِنَّكَ مِنَ الصاغرين﴾ أي الذليلن الحقيرين، معاملة له بنقيض قصده ⦗٩⦘ ومكافأة لِمُرَادِهِ بِضِدِّهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ اسْتَدْرَكَ اللَّعِينُ وَسَأَلَ النَّظْرَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، قَالَ: ﴿أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ﴾ أَجَابَهُ تَعَالَى إِلَى مَا سَأَلَ لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَالْإِرَادَةِ وَالْمَشِيئَةِ الَّتِي لَا تُخَالَفُ وَلَا تُمَانَعُ وَلَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الحساب.
– ١٧ – ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ لَمَّا أُنْظِرَ إِبْلِيسُ ﴿إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ وَاسْتَوْثَقَ إِبْلِيسُ بِذَلِكَ أَخَذَ فِي الْمُعَانَدَةِ وَالتَّمَرُّدِ، فَقَالَ: ﴿فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ أَيْ كَمَا أَغْوَيْتَنِي، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَمَا أَضْلَلْتَنِي، وَقَالَ غَيْرُهُ: كَمَا أَهْلَكْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لِعِبَادِكَ الَّذِينَ تَخْلُقُهُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ هَذَا الَّذِي أَبْعَدْتَنِي بِسَبَبِهِ عَلَى ﴿صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ أَيْ طَرِيقَ الْحَقِّ وَسَبِيلَ النَّجَاةِ وَلَأُضِلَّنَّهُمْ عَنْهَا لِئَلَّا يَعْبُدُوكَ وَلَا يُوَحِّدُوكَ بِسَبَبِ إِضْلَالِكَ إِيَّايَ، وقال بعض النحاة: الباء هنا قَسَمِيَّةٌ، كَأَنَّهُ يَقُولُ فَبِإِغْوَائِكَ إِيَّايَ لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ، قَالَ مُجَاهِدٌ: ﴿صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ يَعْنِي الحق، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، روى الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قال: «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَعَدَ لِابْنِ آدَمَ بِطُرُقِهِ، فَقَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْإِسْلَامِ فَقَالَ: أَتُسْلِمُ وَتَذَرُ دِينَكَ وَدِينَ آبَائِكَ قَالَ فَعَصَاهُ وَأَسْلَمَ» قَالَ: «وَقَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْهِجْرَةِ فَقَالَ: أَتُهَاجِرُ وَتَدَعُ أَرْضَكَ وَسَمَاءَكَ وَإِنَّمَا مَثَلُ الْمُهَاجِرِ كَالْفَرَسِ فِي الطَّوَلِ، فَعَصَاهُ وَهَاجَرَ، ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْجِهَادِ وَهُوَ جِهَادُ النَّفْسِ وَالْمَالِ، فَقَالَ تُقَاتِلُ فَتُقْتَلُ فتنكح المرأة ويقسم المال، قال فعصاه وجاهد»، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ فَمَاتَ كَانَ حَقًّا على الله أن يدخله الجنة، وإن قتل كان حقا على الله أن يدخله الجنة، وَإِنْ غَرِقَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، أَوْ وَقَصَتْهُ دَابَّةٌ كَانَ حَقًّا على الله أن يدخله الجنة» (أخرجه الإمام أحمد في المسند).
وَقَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ﴾ الآية، قال ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ﴾ أشككهم في آخرتهم ﴿وَمِنْ خلفهم﴾ أرعبهم في ديناهم ﴿وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ﴾ أُشَبِّهُ عَلَيْهِمْ أَمْرَ دِينِهِمْ ﴿وَعَن شَمَآئِلِهِمْ﴾ أشهي لهم المعاصي، وعنه: أَمَّا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ فَمِنْ قِبَلِ دُنْيَاهُمْ، وَأَمَّا مِنْ خَلْفِهِمْ فَأَمْرُ آخِرَتِهِمْ، وَأَمَّا عَنْ أَيْمَانِهِمْ فَمِنْ قِبَلِ حَسَنَاتِهِمْ، وَأَمَّا عَنْ شَمَائِلِهِمْ فمن قبل سيئاتهم. وقال قَتَادَةَ: أَتَاهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ لَا بَعْثَ وَلَا جَنَّةَ وَلَا نَارَ، وَمِنْ خلفهم من أمر الدينا فزينها لهم ودعاهم إليها، وعن أَيْمَانِهِمْ مِنْ قِبَلِ حَسَنَاتِهِمْ بَطَّأَهُمُ عَنْهَا، وَعَنْ شمائلهم زين لهم السئيات وَالْمَعَاصِيَ وَدَعَاهُمْ إِلَيْهَا وَأَمَرَهُمْ بِهَا، أَتَاكَ يَا ابْنَ آدَمَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِكَ مِنْ فَوْقِكَ، لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَحُولَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ رَحْمَةِ اللَّهِ (وَكَذَا رُوِيَ عن إبراهيم النخعي والسدي وابن جريج).
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ﴿مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ﴾ من حَيْثُ يُبْصِرُونَ، ﴿وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ﴾ حَيْثُ لَا يُبْصِرُونَ، وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْمُرَادَ جَمِيعُ طُرُقِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، فَالْخَيْرُ يَصُدُّهُمْ عَنْهُ، والشر يحسنه لهم، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ ﴿وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾ قَالَ: مُوَحِّدِينَ، وَقَوْلُ إِبْلِيسَ هَذَا إِنَّمَا هُوَ ظَنٌّ مِنْهُ وَتَوَهُّمٌ، وَقَدْ وَافَقَ
وعن عبد الله بن عمر قَالَ: لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَدَعُ هَؤُلَاءِ الدَّعَوَاتِ حِينَ يُصْبِحُ وَحِينَ يُمْسِي: اللهم إني أسألك العافية في الدينا وَالْآخِرَةِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي دِينِي وَدُنْيَايَ وَأَهْلِي وَمَالِي، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوَرَاتِي وَآمِنْ رَوَعَاتِي، اللَّهُمَّ احْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ وَمِنْ خَلْفِي وَعَنْ يَمِينِي وعن شمالي ومن فَوْقِي، وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي» (وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ والحاكم، وَقَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ).
أَكَّدَ تَعَالَى على الشيطان اللَّعْنَةَ وَالطَّرْدَ وَالْإِبْعَادَ وَالنَّفْيَ عَنْ مَحَلِّ الْمَلَأِ الْأَعْلَى بِقَوْلِهِ: ﴿أَخْرَجَ مِنْهَا مَذْءُومًا مَّدْحُورًا﴾، قَالَ ابن جرير: أما المذؤوم فهو المعيب، والذأم: العيب، يقال ذأمه ذأمًا فهو مذؤوم، وَالذَّامُّ وَالذَّيْمُ أَبْلَغُ فِي الْعَيْبِ مِنَ الذَّمِّ، قَالَ: وَالْمَدْحُورُ الْمُقْصَى وَهُوَ الْمُبْعَدُ الْمَطْرُودُ، وَقَالَ: ما نعرف المذؤوم والمذموم إلا واحدًا،
وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: صَغِيرًا مَقِيتًا، وَقَالَ السُّدِّيُّ: مَقِيتًا مَطْرُودًا، وَقَالَ قَتَادَةُ: لَعِينًا مَقِيتًا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: منفيًا مطرودًا، وقال الربيع بن أنس: مذؤومًا مَنْفِيًّا وَالْمَدْحُورُ الْمُصَغَّرُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ﴾، كَقَوْلِهِ: ﴿قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُورًا﴾.
– ٢٠ – فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ
– ٢١ – وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ
يَذْكُرُ تَعَالَى أَنَّهُ أَبَاحَ لِآدَمَ عليه السلام وَلِزَوْجَتِهِ حَوَّاءَ الجنة أن يأكلا مِنْ جَمِيعِ ثِمَارِهَا إِلَّا شَجَرَةً وَاحِدَةً، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ حَسَدَهُمَا الشَّيْطَانُ، وَسَعَى فِي الْمَكْرِ والوسوسة والخديعة ليسلبهما مَا هُمَا فِيهِ مِنَ النِّعْمَةِ وَاللِّبَاسِ الْحَسَنِ (وَقَالَ) كَذِبًا وَافْتِرَاءً: ﴿مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هذه الشجرة إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ﴾ أَيْ لِئَلَّا تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ خَالِدَيْنِ ها هنا، وَلَوْ أَنَّكُمَا أَكَلْتُمَا مِنْهَا لَحَصَلَ لَكُمَا ذَلِكُمَا، كَقَوْلِهِ: ﴿قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الخلد وَمُلْكٍ لا يبلى﴾ أَيْ لِئَلَّا تَكُونَا مَلَكَيْنِ، كَقَوْلِهِ: ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ﴾، أَيْ لِئَلَّا تَضِلُّوا ﴿وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ﴾ أي لئلا تميد بكم، ﴿وَقَاسَمَهُمَآ﴾ أَيْ حَلَفَ لَهُمَا بِاللَّهِ ﴿إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين﴾، أَيْ حَلَفَ لَهُمَا بِاللَّهِ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى خدعهما وقد يخدع المؤمن بالله، وقال قتادة في
– ٢٣ – قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتِ الشَّجَرَةُ الَّتِي نَهَى اللَّهُ عَنْهَا آدَمَ وَزَوْجَتَهُ السُّنْبُلَةَ، فَلَمَّا أَكَلَا مِنْهَا بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا، وَكَانَ الَّذِي وَارَى عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا أَظْفَارَهُمَا، وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَرَقِ التِّينِ، يَلْزَقَانِ بَعْضَهُ إِلَى بَعْضٍ، فَانْطَلَقَ آدَمُ عليه السلام مُوَلِّيًا فِي الْجَنَّةِ، فَعَلِقَتْ بِرَأْسِهِ شَجَرَةٌ مِنَ الجنة، فناداه الله: يَا آدَمُ أَمِنِّي تَفِرُّ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنِّي أستحييك يَا رَبِّ، قَالَ: أَمَا كَانَ لَكَ فِيمَا مَنَحْتُكَ مِنَ الْجَنَّةِ وَأَبَحْتُكَ مِنْهَا مَنْدُوحَةً عَمَّا حَرَّمْتُ عَلَيْكَ؟ قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ، وَلَكِنْ وَعِزَّتِكَ مَا حَسِبْتُ أَنَّ أَحَدًا يَحْلِفُ بِكَ كاذبًا، قال: وهو قول الله عز وجل ﴿وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ﴾ قَالَ: فَبِعِزَّتِي لَأُهْبِطَنَّكَ إِلَى الْأَرْضِ، ثُمَّ لَا تَنَالُ الْعَيْشَ إِلَّا كَدًّا قَالَ: فَأُهْبِطَ مِنَ الْجَنَّةِ، وَكَانَا يَأْكُلَانِ مِنْهَا رَغَدًا فَأُهْبِطَ إِلَى غَيْرِ رَغَدٍ مِنْ طَعَامٍ وَشَرَابٍ، فَعُلِّمَ صَنْعَةَ الْحَدِيدِ، وَأُمِرَ بِالْحَرْثِ، فَحَرَثَ وَزَرَعَ ثُمَّ سَقَى، حَتَّى إِذَا بَلَغَ حَصَدَ، ثُمَّ دَاسَهُ ثُمَّ ذَرَاهُ، ثُمَّ طَحَنَهُ، ثُمَّ عَجَنَهُ، ثُمَّ خَبَزَهُ، ثُمَّ أَكَلَهُ، فَلَمْ يَبْلُغْهُ حَتَّى بَلَغَ مِنْهُ ما شاء الله أن يبلغ، وقال سعيد ابن جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجنة﴾ قال: ورق التين وَقَالَ مُجَاهِدٌ: جَعَلَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجنة قال كهيئة الثوب، وقال وهب ابن مُنَبِّهٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا﴾ قَالَ: كَانَ لِبَاسُ آدَمَ وَحَوَّاءَ نُورًا عَلَى فُرُوجِهِمَا، لَا يَرَى هَذَا عَوْرَةَ هَذِهِ، وَلَا هَذِهِ عَوْرَةَ هَذَا، فَلَمَّا أَكَلَا مِنَ الشَّجَرَةِ بَدَتْ لهما سوآتهما (رواه ابن جرير بسند صحيح). وقال قتادة: قَالَ آدَمُ: أَيْ رَبِّ أَرَأَيْتَ إِنْ تُبْتُ وَاسْتَغْفَرْتُ،
قَالَ: إِذًا أُدْخِلُكَ الْجَنَّةَ، وَأَمَّا إِبْلِيسُ فَلَمْ يَسْأَلْهُ التَّوْبَةَ وَسَأَلَهُ النَّظْرَةَ، فَأُعْطِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الَّذِي سَأَلَهُ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا أَكَلَ آدَمُ مِنَ الشَّجَرَةِ قِيلَ لَهُ: لِمَ أَكَلْتَ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي نَهَيْتُكَ عَنْهَا؟ قَالَ: حَوَّاءُ أَمَرَتْنِي، قَالَ: فَإِنِّي قَدْ أَعْقَبْتُهَا أَنْ لَا تَحْمِلَ إِلَّا كُرهًا، وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ كُرهًا، قَالَ: فَرَنَّتْ عِنْدَ ذَلِكَ حَوَّاءُ، فَقِيلَ لَهَا: الرَّنَّةُ عَلَيْكِ وَعَلَى وَلَدِكِ؛ وَقَالَ الضَّحَّاكُ بْنُ مُزَاحِمٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ هِيَ الكلمات التي تلقاها آدم من ربه.
– ٢٥ – قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ
يَمْتَنُّ تعالى عَلَى عِبَادِهِ بِمَا جَعَلَ لَهُمْ مِنَ اللِّبَاسِ والريش، فاللباس ستر العورات وهي السوآت، والرياش والريش مَا يُتَجَمَّلُ بِهِ ظَاهِرًا، فَالْأَوَّلُ مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ، وَالرِّيشُ مِنَ التَّكَمُّلَاتِ وَالزِّيَادَاتِ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: الرِّيَاشُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْأَثَاثُ وَمَا ظَهَرَ من الثياب، وقال ابن عباس: الريش: اللباس، والعيش والنعيم، وقال ابن أسلم: الرياش الجمال؛ ولبس أَبُو أُمَامَةَ ثَوْبًا جَدِيدًا، فَلَمَّا بَلَغَ تَرْقُوَتَهُ قال الحمد للَّهِ الذي كساني ما أوراي بِهِ عَوْرَتِي، وَأَتَجَمَّلُ بِهِ فِي حَيَاتِي، ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «من اسْتَجَدَّ ثَوْبًا فَلَبِسَهُ فَقَالَ حِينَ يَبْلُغُ تَرْقُوَتَهُ: الحمد لله الذي كساني ما أوراي بِهِ عَوْرَتِي وَأَتَجَمَّلُ بِهِ فِي حَيَاتِي، ثُمَّ عمد إلى الثوب الخلق فَتَصَدَّقَ بِهِ، كَانَ فِي ذِمَّةِ اللَّهِ وَفِي جِوَارِ اللَّهِ وَفِي كَنَفِ اللَّهِ حَيًّا وَمَيِّتًا» (رواه أحمد والترمذي وابن ماجه). وقوله تعالى: ﴿وَلِبَاسُ التقوى ذلك خَيْرٌ﴾، اختلف الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَاهُ، فَقَالَ عِكْرِمَةُ: يُقَالُ هُوَ ما يلبسه المتقون يوم القيامة، وقال قتادة وابن جريج: ﴿وَلِبَاسُ التقوى﴾ الإيمان، وقال ابن عباس: العمل الصالح، وعنه: هُوَ السَّمْتُ الْحَسَنُ فِي الْوَجْهِ، وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ ﴿لِبَاسُ التَّقْوَى﴾ خَشْيَةُ اللَّهِ، وَقَالَ ابن أسلم: ولباس التَّقْوَى يَتَّقِي اللَّهَ فَيُوَارِي عَوْرَتَهُ، فَذَاكَ لِبَاسُ التقوى، وكلها مُتَقَارِبَةٌ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ جرير عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: رَأَيْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رضي الله عنه عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عليه قميص فوهي مَحْلُولُ الزِّرِّ، وَسَمِعْتُهُ يَأْمُرُ بِقَتْلِ الْكِلَابِ، وَيَنْهَى عَنِ اللَّعِبِ بِالْحَمَامِ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللَّهَ فِي هَذِهِ السَّرَائِرِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يقول: «والذي نفس محمد بيده مَا أَسَرَّ أَحَدٌ سَرِيرَةً إِلَّا أَلْبَسُهُ اللَّهُ رداءها عَلَانِيَةً إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ»، ثُمَّ قرأ هذه الآية: ﴿وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ الله﴾ قال: السمت الحسن (رواه ابن جرير، قال ابن كثير: فيه ضَعْفٌ، وَقَدْ رَوَى الْأَئِمَّةُ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ مِنْ طُرُقٍ صَحِيحَةٍ عَنِ الحسن البصري بعضه).
يحذر تعالى بني آدم من إبليس وقبيله مبينًا لَهُمْ عَدَاوَتَهُ الْقَدِيمَةَ لِأَبِي الْبَشَرِ آدَمَ عليه السلام في سعيه وإخراجه مِنَ الْجَنَّةِ، الَّتِي هِيَ دَارُ النَّعِيمِ إِلَى دَارِ التَّعَبِ وَالْعَنَاءِ، وَالتَّسَبُّبِ فِي هَتْكِ عَوْرَتِهِ بَعْدَمَا كَانَتْ مَسْتُورَةً عَنْهُ، وَمَا هَذَا إِلَّا عَنْ عَدَاوَةٍ أَكِيدَةٍ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا﴾.
– ٢٩ – قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ
– ٣٠ – فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الله وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ
كَانَتِ الْعَرَبُ مَا عَدَا قُرَيْشًا لَا يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ فِي ثِيَابِهِمُ الَّتِي لَبِسُوهَا، يَتَأَوَّلُونَ فِي ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَا يَطُوفُونَ فِي ثِيَابٍ عَصَوُا الله فيها، وكانت قريش – وهم الحمس – يسرفون في ثيابهم، ومن أعراه أَحْمَسِيٌّ ثَوْبًا طَافَ فِيهِ، وَمِنْ مَعَهُ ثَوْبٌ جَدِيدٌ طَافٍ فِيهِ، ثُمَّ يُلْقِيهِ فَلَا يَتَمَلَّكُهُ أحدن ومن لَمْ يَجِدْ ثَوْبًا جَدِيدًا وَلَا أَعَارَهُ أَحْمَسِيٌّ ثَوْبًا طَافَ عُرْيَانًا، وَرُبَّمَا كَانَتِ امْرَأَةً فَتَطُوفُ عريانة فتجعل على فرجها شيئًا ليستره بعض الستر فتقول:
الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ * وَمَا بَدَا مِنْهُ فَلَا أُحِلُّهُ
وَأَكْثَرُ مَا كَانَ النِّسَاءُ يَطُفْنَ عُرَاةً بِاللَّيْلِ، وَكَانَ هَذَا شَيْئًا قَدِ ابْتَدَعُوهُ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ، وَاتَّبَعُوا فِيهِ آبَاءَهُمْ، وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ فِعْلَ آبَائِهِمْ مُسْتَنِدٌ إِلَى أَمْرٍ مِنَ اللَّهِ وَشَرْعٍ، فَأَنْكَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ ذَلِكَ فَقَالَ: ﴿وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا﴾، فَقَالَ تَعَالَى ردًا عليهم: ﴿قُلْ﴾ أي يَا مُحَمَّدُ لِمَنِ ادَّعَى ذَلِكَ ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ﴾ أَيْ هَذَا الَّذِي تَصْنَعُونَهُ فَاحِشَةٌ مُنْكَرَةٌ وَاللَّهُ لَا يَأْمُرُ بِمِثْلِ ذَلِكَ، ﴿أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾؟ أَيْ أَتُسْنِدُونَ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْأَقْوَالِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ صحته، وقوله تعالى: ﴿قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ﴾ أَيْ بِالْعَدْلِ وَالِاسْتِقَامَةِ، ﴿وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ أَيْ أَمَرَكُمْ بِالِاسْتِقَامَةِ فِي عِبَادَتِهِ في محالها، وهي متابعة المرسيلن الْمُؤَيَّدِينَ بِالْمُعْجِزَاتِ فِيمَا أَخْبَرُوا بِهِ عَنِ اللَّهِ، وما جاءوا به مِنَ الشَّرَائِعِ وَبِالْإِخْلَاصِ لَهُ فِي عِبَادَتِهِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى لَا يَتَقَبَّلُ الْعَمَلَ حَتَّى يَجْمَعَ هَذَيْنَ الرُّكْنَيْنِ أَنْ يَكُونَ صَوَابًا مُوَافِقًا لِلشَّرِيعَةِ، وَأَنْ يكون خالصًا من الشرك.
واختلف في معنى قوله: ﴿كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ﴾، فقال مجاهد: يُحْيِيكُمْ بَعْدَ مَوْتِكُمْ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: كَمَا بدأكم في الدينا كَذَلِكَ تَعُودُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحْيَاءً، وَقَالَ قَتَادَةُ: بَدَأَ فَخَلَقَهُمْ وَلَمْ يَكُونُوا شَيْئًا ثُمَّ ذَهَبُوا ثم يعيدهم، وقال ابن أَسْلَمَ: كَمَا بَدَأَكُمْ أَوَّلًا كَذَلِكَ يُعِيدُكُمْ آخِرًا، وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ، وأيده
وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ الْعَبْدَ لِيَعْمَلُ فِيمَا يَرَى النَّاسُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّهُ لِيَعْمَلُ فِيمَا يَرَى النَّاسُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الجنة، وإنما الأعمال بالخواتيم» (هذا جزء من حديث رواه البخاري) وفي الحديث: «يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ» (رواه مسلم وابن ماجه). قُلْتُ: وَلَا بُدَّ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذَا القول وإن كَانَ هُوَ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ الله التي فَطَرَ الناس عَلَيْهَا﴾، وَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يمجسانه»، وَوَجْهُ الْجَمْعِ عَلَى هَذَا: أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَهُمْ لِيَكُونَ مِنْهُمْ مُؤْمِنٌ وَكَافِرٌ فِي ثَانِي الْحَالِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ فَطَرَ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ عَلَى مَعْرِفَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ وَالْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، كما أخذ عليهم الميثاق بذلك وَجَعَلَهُ فِي غَرَائِزِهِمْ وَفِطَرِهِمْ، وَمَعَ هَذَا قَدَّرَ أَنَّ مِنْهُمْ شَقِيًّا وَمِنْهُمْ سَعِيدًا، ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُؤْمِنٌ﴾، وَفِي الْحَدِيثِ: «كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا» وَقَدَرُ اللَّهِ نَافِذٌ فِي بريته، فإنه هو ﴿الذي قدر فهدى﴾ وَ﴿الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: «فَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَسَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ فَسَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ»، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ﴾، ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ فَقَالَ: ﴿إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الله﴾ الآية.
هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ رَدٌّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِيمَا كَانُوا يَعْتَمِدُونَهُ مِنَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ عراة، كما روي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،
الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ * وَمَا بَدَا مِنْهُ فَلَا أُحِلُّهُ
فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَاللَّفْظُ لَهُ)، وقال العوفي عن ابن عباس: كَانَ رِجَالٌ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً، فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ بِالزِّينَةِ، والزينةُ اللِّبَاسُ، وَهُوَ مَا يُوَارِي السَّوْأَةَ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ جَيِّدِ الْبَزِّ وَالْمَتَاعِ، فَأُمِرُوا أَنْ يَأْخُذُوا زِينَتَهُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ (وروي عن مجاهد وعطاء والنخعي وقتادة والسدي والضحّاك وغيرهم). وَلِهَذِهِ الْآيَةِ وَمَا وَرَدَ فِي مَعْنَاهَا مِنَ السُّنَّةِ يُسْتَحَبُّ التَّجَمُّلُ عِنْدَ الصَّلَاةِ، وَلَا سِيَّمَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَيَوْمَ الْعِيدِ، وَالطِّيبُ لِأَنَّهُ مِنَ الزِّينَةِ، وَالسِّوَاكُ لِأَنَّهُ مِنْ تَمَامِ ذَلِكَ، وَمِنْ أفضل اللباس البياض، كما قال الإمام أحمد عن ابن عباس مرفوعًا قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «الْبَسُوا مِنْ ثِيَابِكُمُ الْبَيَاضَ فَإِنَّهَا مِنْ خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم، وإن خَيْرِ أَكْحَالِكُمُ الْإِثْمِدَ فَإِنَّهُ يَجْلُو الْبَصَرَ، وَيُنْبِتُ الشعر»، وللإمام أحمد أيضًا وأهل السنن، عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «عليكم بثياب الْبَيَاضِ فَالْبَسُوهَا فَإِنَّهَا أَطْهَرُ وَأَطْيَبُ وَكَفِّنُوا فِيهَا موتاكم». ويروى أن تميمًا الداري اشترى رداء بألف وكان يصلي فيه.
وقوله تعالى: ﴿وكلوا واشربوا﴾ الْآيَةَ، قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: جَمَعَ اللَّهُ الطِّبَّ كُلَّهُ فِي نِصْفِ آيَةٍ: ﴿وكُلُواْ وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا﴾، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلْ مَا شِئْتَ، وَالْبَسْ مَا شِئْتَ، مَا أَخْطَأَتْكَ خصلتان: سرف ومخيلة. وقال ابن عباس: أَحَلَّ اللَّهُ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ، مَا لَمْ يَكُنْ سرفًا أو مخيلة، وفي الحديث: «كلوا واشربوا وتصدقوا من غَيْرِ مَخِيلَةٍ وَلَا سَرَفٍ، فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أن يرى نعمته على عبده» (رواه أحمد والنسائي وابن ماجه)، وقال الإمام أحمد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «ما ملأ ابن آدم وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنِهِ، حَسْبُ ابْنِ آدَمَ أَكَلَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ فَاعِلًا لَا محالة، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه» (ورواه النسائي والترمذي، وقال الترمذي: حسن صحيح)، وفي الحديث: «إِنَّ مِنَ السَّرَفِ أَنْ تَأْكُلَ كُلَّ مَا اشتهيت» (رواه الحافظ الموصلي والدارقطني وقال فيه: هذا حديث غريب). وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ الَّذِينَ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً يحرمون عليهم الودك (الدسم) ما أقاموا في المواسم، فقال الله تعالى لهم: ﴿كلوا واشربوا﴾ الآية، يَقُولُ: لَا تُسْرِفُوا فِي التَّحْرِيمِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَمَرَهُمْ أَنْ يَأْكُلُوا وَيَشْرَبُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ﴿وَلاَ تسرفوا﴾ ولا تأكلوا حرامًا ذلك الإسراف، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين﴾، يقول الله تعالى: ﴿إن الله لا يحب المعتدين﴾ حَدَّهُ فِي حَلَالٍ أَوْ حَرَامٍ، الْغَالِينَ فِيمَا أحل بإحلال الحرام أو بتحريم الْحَلَالِ، وَلَكِنَّهُ يُحِبُّ أَنْ يُحَلَّلَ مَا أَحَلَّ وَيُحَرَّمَ مَا حَرَّمَ، وَذَلِكَ الْعَدْلُ الَّذِي أَمَرَ به.
يَقُولُ تَعَالَى رَدًّا عَلَى مَنْ حَرَّمَ شَيْئًا مِنَ الْمَآكِلِ أو المشارب أو الملابس مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ شَرْعٍ مِنَ اللَّهِ ﴿قُلْ﴾ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يُحَرِّمُونَ مَا يُحَرِّمُونَ بِآرَائِهِمُ الْفَاسِدَةِ وَابْتِدَاعِهِمْ ﴿مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله التي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ﴾ الْآيَةَ، أَيْ هِيَ مَخْلُوقَةٌ لِمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وعبده في الحياة الدينا، وإن شركهم فيها الكفار حسًا في الدينا، فَهِيَ لَهُمْ خَاصَّةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَشْرَكُهُمْ فِيهَا أَحَدٌ مِنَ الْكُفَّارِ، فَإِنَّ الْجَنَّةَ مُحَرَّمَةٌ على الكافرين. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتْ قُرَيْشٌ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ وَهُمْ عُرَاةٌ يُصَفِّرُونَ وَيُصَفِّقُونَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ﴾ فأمروا بالثياب (رواه الطبراني عن ابن عباس).
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ، قَالَ رسول الله ﷺ: «لا أَحَدَ أغيرَ مِنَ اللَّهِ، فَلِذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَلَا أَحَدَ أحب إليه المدح من الله» (رواه أحمد والشيخان)، وقد تقدم الكلام عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالْفَوَاحِشِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وما بطن في سورة الأنعام. وَقَوْلُهُ: ﴿وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾، قَالَ السُّدِّيُّ: أَمَّا الْإِثْمُ فَالْمَعْصِيَةُ، وَالْبَغْيُ أَنْ تَبْغِيَ عَلَى النَّاسِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْإِثْمُ الْمَعَاصِي كلها، وأخبر أن الباغي بغيه عَلَى نَفْسِهِ، وَحَاصِلُ مَا فُسِّرَ بِهِ الْإِثْمُ: أن الْخَطَايَا الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْفَاعِلِ نَفْسِهِ، وَالْبَغْيُ هُوَ التَّعَدِّي إِلَى النَّاسِ، فَحَرَّمَ اللَّهُ هَذَا وَهَذَا. وَقَوْلُهُ تعالى: ﴿وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا﴾ أي تجعلوا له شركاء في عبادته، ﴿وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ عن الِافْتِرَاءِ وَالْكَذِبِ مِنْ دَعْوَى أَنَّ لَهُ وَلَدًا، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا لَا عِلْمَ لَكُمْ بِهِ، كقوله: ﴿فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان﴾ الآية.
– ٣٥ – يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
– ٣٦ – وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ﴾ أَيْ قَرْنٍ وَجِيلٍ ﴿أَجَلٌ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ﴾ أَيْ مِيقَاتُهُمُ الْمُقَدَّرُ لَهُمْ ﴿لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ﴾، ثُمَّ أَنْذَرَ تَعَالَى بَنِي آدَمَ أنه سيبعث إليهم رسلًا يقصون عليهم آيايته وَبَشَّرَ وَحَذَّرَ فَقَالَ: ﴿فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ﴾ أَيْ تَرَكَ الْمُحَرَّمَاتِ وَفَعَلَ الطَّاعَاتِ ﴿فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا ⦗١٧⦘ وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَآ﴾ أَيْ كَذَّبَتْ بِهَا قُلُوبُهُمْ وَاسْتَكْبَرُوا عَنِ الْعَمَلِ بِهَا، ﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ أَيْ مَاكِثُونَ فِيهَا مُكْثًا مُخَلَّدًا.
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن أفترى على الله الكذب أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ﴾ أَيْ لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى الْكَذِبَ عَلَى اللَّهِ أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ الْمُنَزَّلَةِ ﴿أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ﴾، اخْتَلَفَ المفسرون في معناه، فقال ابْنِ عَبَّاسٍ: يَنَالُهُمْ مَا كُتِبَ عَلَيْهِمْ، وَكُتِبَ لمن كذب على الله أن وجهه مسود، وعنه قال: نَصِيبُهُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ، مَنْ عَمِلَ خَيْرًا جُزِيَ بِهِ، وَمِنْ عَمِلَ شَرًّا جُزِيَ بِهِ. وَقَالَ مجاهد: ما وعدوا به من خير وشر، واختاره ابن جرير،
وقال محمد الْقُرَظِيُّ ﴿أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ﴾، قَالَ: عمله ورزقه وعمره، وَهَذَا الْقَوْلُ قَوِيٌّ فِي الْمَعْنَى، وَالسِّيَاقُ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: ﴿حَتَّى إِذَا جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ﴾ ونظير المعنى في هذه الآية، كقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ﴾ وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَن كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عملوا﴾ الآية، وقوله: ﴿حتى إِذَا جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ﴾ الآية. يخبر تعالى أن الملائكة إذا توفيت الْمُشْرِكِينَ تُفْزِعُهُمْ عِنْدَ الْمَوْتِ وَقَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ إِلَى النَّارِ، يَقُولُونَ لَهُمْ: أَيْنَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ بِهِمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَدْعُونَهُمْ وَتَعْبُدُونَهُمْ مَنْ دُونِ اللَّهِ ادْعُوهُمْ يُخَلِّصُوكُمْ مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ، قَالُواْ: ﴿ضَلُّواْ عَنَّا﴾ أَيْ ذَهَبُوا عَنَّا فَلَا نَرْجُو نَفْعَهُمْ وَلَا خَيْرَهُمْ ﴿وَشَهِدُواْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾ أَيْ أَقَرُّوا وَاعْتَرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ﴿أَنَّهُمْ كَانُوا كافرين﴾.
– ٣٩ – وَقَالَتْ أُولاَهُمْ لأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَمَّا يَقُولُهُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِهِ الْمُفْتَرِينَ عَلَيْهِ الْمُكَذِّبِينَ بِآيَاتِهِ ﴿ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ﴾ أَيْ من أمثالكم وَعَلَى صِفَاتِكُمْ، ﴿قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ﴾ أَيْ مِنَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ الْكَافِرَةِ، ﴿مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النار﴾ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ﴿فِي أُمَمٍ﴾ أَيْ مَعَ أُمَمٍ. وَقَوْلُهُ: ﴿كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا﴾ كَمَا قَالَ الْخَلِيلُ عليه السلام، ﴿ثُمَّ يَوْمَ القيامة يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ﴾ الآية. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ
وقوله: ﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أثقالهم﴾، وقوله: ﴿وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ علم﴾ الآية، ﴿وَقَالَتْ أُولاَهُمْ لأُخْرَاهُمْ﴾ أَيْ قَالَ الْمَتْبُوعُونَ لِلْأَتْبَاعِ: ﴿فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ﴾، قَالَ السدي: لقد ضَلَلْتُمْ كَمَا ضَلَلْنَا، ﴿فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ﴾، وهذه الْحَالُ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فِي حَالِ مَحْشَرِهِمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلِ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ﴾ الآيات.
– ٤١ – لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وكذلك نَجْزِي الظالمين
وقوله تعالى: ﴿لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ﴾ قِيلَ: الْمُرَادُ لَا يُرْفَعُ لَهُمْ مِنْهَا عَمَلٌ صَالِحٌ وَلَا دُعَاءٌ (قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَرَوَاهُ العوفي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ)، وَقِيلَ: الْمُرَادُ لَا تُفْتَحُ لِأَرْوَاحِهِمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ (رَوَاهُ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عباس وبه قال السدي)، ويؤيده ما رواه الإمام أحمد عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في جِنَازَةِ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْقَبْرِ وَلَمَّا يُلَحَّدْ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وجلسنا حوله كأن على رؤوسنا الطَّيْرَ، وَفِي يَدِهِ عُودٌ يَنْكُتُ بِهِ فِي الْأَرْضِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: “اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ – مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا – ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ إِلَى الْآخِرَةِ نَزَلَ إِلَيْهِ مَلَائِكَةٌ مِنَ السَّمَاءِ بِيضُ الْوُجُوهِ، كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الشَّمْسُ مَعَهُمْ كَفَنٌ مِنْ أَكْفَانِ الْجَنَّةِ، وَحَنُوطٌ مِنْ حَنُوطِ الْجَنَّةِ، حَتَّى يَجْلِسُوا مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَيَقُولُ: أَيَّتُهَا النفس المطمئنة اخْرُجِي إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن اللَّهِ وَرِضْوَانٍ – قَالَ: فتخرج تسيل كما يسيل القطر فِي السِّقَاءِ، فَيَأْخُذُهَا فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَأْخُذُوهَا، فَيَجْعَلُوهَا فِي ذَلِكَ الْكَفَنِ، وَفِي ذَلِكَ الْحَنُوطِ، وَيَخْرُجَ مِنْهَا كَأَطْيَبِ نَفْحَةِ مِسْكٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، فَيَصْعَدُونَ بِهَا فَلَا يَمُرُّونَ بِهَا عَلَى مَلَأٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا قَالُوا: مَا هَذِهِ الروح الطيبة؟ فيقولون: فلان بن فُلَانٍ بِأَحْسَنِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانُوا يُسَمُّونَهُ بِهَا فِي الدُّنْيَا، حَتَّى يَنْتَهُوا بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَسْتَفْتِحُونَ لَهُ فَيُفْتَحُ لَهُ، فَيُشَيِّعُهُ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مُقَرَّبُوهَا إِلَى السَّمَاءِ الَّتِي تَلِيهَا حَتَّى يَنْتَهِيَ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَيَقُولُ اللَّهُ عز وجل: اكْتُبُوا
فَيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِهَا وطيبها، ويفسح له قبره مد البصر – قَالَ: وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ حَسَنُ الْوَجْهِ حَسَنُ الثِّيَابِ طَيِّبُ الرِّيحِ، فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُرُّكَ، هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ، فَيَقُولُ لَهُ: مَنْ أَنْتَ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالْخَيْرِ؟ فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ، فَيَقُولُ: رَبِّ أَقِمِ السَّاعَةَ، رَبِّ أَقِمِ السَّاعَةَ حَتَّى أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي وَمَالِي.
قَالَ: وَإِنَّ الْعَبْدَ الْكَافِرَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ من الدنيا وإقبال على الْآخِرَةِ، نَزَلَ إِلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ مَلَائِكَةٌ سُودُ الْوُجُوهِ مَعَهُمُ الْمُسُوحُ، فَيَجْلِسُونَ مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَيَقُولُ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ اخْرُجِي إِلَى سَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَغَضَبٍ، قَالَ: فَتُفَرَّقُ فِي جَسَدِهِ، فَيَنْتَزِعُهَا كَمَا يُنْتَزَعُ السَّفُّودُ مِنَ الصُّوفِ الْمَبْلُولِ، فَيَأْخُذُهَا، فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، حَتَّى يَجْعَلُوهَا فِي تِلْكَ الْمُسُوحِ، وَيَخْرُجَ مِنْهَا كَأَنْتَنِ رِيحِ جِيفَةٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، فَيَصْعَدُونَ بِهَا، فَلَا يَمُرُّونَ بِهَا عَلَى مَلَأٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا قَالُوا: مَا هَذِهِ الروح الخبيثة؟ فيقولون فلان بن فُلَانٍ، بِأَقْبَحِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانَ يُسَمَّى بِهَا في الدنيا، حتى ينتهي بها إلى السماء الدنيا، فيستفتح فَلَا يُفْتَحُ لَهُ – ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ﴿لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ﴾ فَيَقُولَ اللَّهُ عز وجل: اكْتُبُوا كِتَابَهُ فِي سِجِّينٍ فِي الْأَرْضِ السُّفْلَى، فَتُطْرَحَ رُوحُهُ طَرْحًا – ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيق﴾، فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ، وَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي، فَيَقُولَانِ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي، فَيَقُولَانِ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ، فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي، فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ أَنْ كَذَبَ عبدي فَأَفْرِشُوهُ مِنَ النَّارِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى النَّارِ، فَيَأْتِيهِ مِنْ حَرِّهَا وَسُمُومِهَا وَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ فِيهِ أَضْلَاعُهُ، وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ قَبِيحُ الْوَجْهِ، قَبِيحُ الثِّيَابِ، مُنْتِنُ الرِّيحِ فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُوؤُكَ، هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ توعد، فيقول: من أنت فوجهك الوجه الذي يَجِيءُ بِالشَّرِّ؟ فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الْخَبِيثُ، فَيَقُولُ: رَبِّ لا تقم الساعة.
وفي الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: “الْمَيِّتُ تَحْضُرُهُ الْمَلَائِكَةُ فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ الصَّالِحُ قَالُوا اخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الطَّيِّبِ، اخْرُجِي حَمِيدَةً، وَأَبْشِرِي بِرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ، فَيَقُولُونَ ذَلِكَ حَتَّى يُعْرَجَ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ، فَيُسْتَفْتَحُ لَهَا فَيُقَالُ: مَنْ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: فَلَانٌ، فَيُقَالُ: مَرْحَبًا بِالنَّفْسِ الطَّيِّبَةِ الَّتِي كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الطَّيِّبِ، ادْخُلِي حَمِيدَةً وَأَبْشِرِي بِرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ، فَيُقَالُ لَهَا ذَلِكَ، حَتَّى يَنْتَهِيَ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ الَّتِي فِيهَا اللَّهُ عز وجل، وَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ السُّوءُ قَالُوا: اخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الْخَبِيثِ اخْرُجِي ذَمِيمَةً وَأَبْشِرِي بِحَمِيمٍ وَغَسَّاقٍ وَآخَرَ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ، فَيَقُولُونَ ذَلِكَ حَتَّى تَخْرُجَ، ثُمَّ يُعْرَجُ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ فَيُسْتَفْتَحُ لَهَا فَيُقَالُ: مَنْ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: فَلَانٌ، فَيَقُولُونَ: لَا مَرْحَبًا بِالنَّفْسِ الْخَبِيثَةِ الَّتِي كَانَتْ
وقد قال ابن جريج: لَا تُفَتَّحُ لِأَعْمَالِهِمْ وَلَا لِأَرْوَاحِهِمْ، وَهَذَا فِيهِ جمع بين القولين، والله أعلم. وقوله تعالى: ﴿وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ﴾ هَكَذَا قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ، وَفَسَّرُوهُ بِأَنَّهُ البعير، قال الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: حَتَّى يُدْخَلَ الْبَعِيرُ فِي خُرْقِ الإبرة (هذا قول جمهور السلف منهم أبو العالية والضحّاك وابن مسعود ورواه العوفي عن ابن عباس). وقرأ ابن عباس: بِضَمِّ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ: يَعْنِي الْحَبْلُ الْغَلِيظُ في خرق الْإِبْرَةِ. وَهَذَا اخْتِيَارُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَرَأَ: حَتَّى يَلِجَ الْجُمَّلُ، يَعْنِي قُلُوسَ السُّفُنِ وَهِيَ الْحِبَالُ الْغِلَاظُ. وَقَوْلُهُ: ﴿لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ﴾ المراد: الفرش، ﴿وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ﴾ اللُّحُفُ، وَكَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ بْنُ مُزَاحِمٍ وَالسُّدِّيُّ ﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ﴾.
خَالِدُونَ
– ٤٣ – وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ الْأَنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى حَالَ الْأَشْقِيَاءِ عَطَفَ بِذِكْرِ حَالِ السُّعَدَاءِ، فَقَالَ: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ﴾ أَيْ آمَنَتْ قُلُوبُهُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِجَوَارِحِهِمْ ضِدُّ ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ واستكبروا عنها﴾ نبه تَعَالَى عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ وَالْعَمَلَ بِهِ سَهْلٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: ﴿لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ﴾ أَيْ من حسد وبغض، كَمَا جَاءَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ حُبِسُوا عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَاقْتَصَّ لَهُمْ مَظَالِمُ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا، أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ أَحَدَهُمْ بِمَنْزِلِهِ فِي الْجَنَّةِ أَدُلُّ مِنْهُ بِمَسْكَنِهِ كَانَ فِي الدُّنْيَا». وقال السدي في الآية: إن أهل الجنة إذا سيقوا إلى الجنة وَجَدُوا عِنْدَ بَابِهَا شَجَرَةً، فِي أَصْلِ سَاقِهَا عَيْنَانِ، فَشَرِبُوا مِنْ إِحْدَاهُمَا، فَيُنْزَعُ مَا فِي صُدُورِهِم مِنْ غِلٍّ فَهُوَ الشَّرَابُ الطَّهُورُ، وَاغْتَسَلُوا مِنَ الأُخرى فَجَرَتْ عَلَيْهِمْ نَضْرَةُ النَّعِيمِ، فَلَمْ يشعثوا ولم يشحبوا بعدها أبدًا. وقال عَلِيٌّ رضي الله عنه: إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا وَعُثْمَانُ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ مِنَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ﴾ (رواه ابن جرير عن قتادة عن علي كرم الله وجهه). وروى النسائي وابن مردويه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «كُلُّ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ فَيَقُولُ: لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي فَيَكُونُ لَهُ شُكْرًا، وَكُلُّ أَهْلِ النَّارِ يَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ فَيَقُولُ: لَوْ أن الله هداني فيكون له حسرة» (أخرجه ابن مردويه والنسائي عن أبي هريرة مرفوعًا)، وَلِهَذَا لَمَا أُورِثُوا مَقَاعِدَ أَهْلِ النَّارِ مِنَ الجنة نودوا أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ، أَيْ بِسَبَبِ أَعْمَالِكُمْ نَالَتْكُمُ الرَّحْمَةُ
فَدَخَلْتُمُ الْجَنَّةَ وَتَبَوَّأْتُمْ مَنَازِلَكُمْ بِحَسَبِ أَعْمَالِكُمْ، وَإِنَّمَا وَجَبَ الْحَمْلُ عَلَى هَذَا لِمَا يثبت في الصحيحين عنه ﷺ:
– ٤٥ – الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ
يُخْبِرُ تَعَالَى بِمَا يُخَاطِبُ به أهل النار على التقريع والتوبيخ إذا استقروا في منازلهم ﴿أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا﴾ «أن» ههنا مُفَسِّرَةٌ لِلْقَوْلِ الْمَحْذُوفِ، وَ«قَدْ» لِلتَّحْقِيقِ، أَيْ قَالُوا لَهُمْ: قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وعدكم رَبُّكُمْ حَقًّا؟ قَالُواْ: نَعَمْ كَمَا أَخْبَرَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ عَنِ الَّذِي كَانَ لَهُ قَرِينٌ مِنَ الْكُفَّارِ، ﴿فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَآءِ الْجَحِيمِ * قَالَ تَاللَّهِ إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ المحضرين﴾ أَيْ يُنْكِرُ عَلَيْهِ مَقَالَتَهُ الَّتِي يَقُولُهَا فِي الدُّنْيَا وَيُقَرِّعُهُ بِمَا صَارَ إِلَيْهِ مِنَ الْعَذَابِ والنكال، وكذلك تُقَرِّعُهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَقُولُونَ لَهُمْ: ﴿هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ * أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ﴾، وَكَذَلِكَ قَرَّعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَتْلَى الْقَلِيبِ يَوْمَ بَدْرٍ فَنَادَى: “يَا أبا جهل ابن هِشَامٍ، وَيَا عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَيَا شَيْبَةَ بن ربيعة – وسمى رؤوسهم – هَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ فَإِنِّي وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا. وَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تُخَاطِبُ قَوْمًا قَدْ جَيَّفُوا؟ فَقَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ، وَلَكِنْ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يجيبوا» (الحديث مروي في الصحيحين)، وقوله تعالى: ﴿فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ﴾ أَيْ أَعْلَمَ مُعْلِمٌ وَنَادَى مُنَادٍ ﴿أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ أَيْ مستقرة عليهمن ثُمَّ وَصَفَهُمْ بِقَوْلِهِ: ﴿الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا﴾ أَيْ يَصُدُّونَ النَّاسَ عَنِ اتِّبَاعِ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَرْعِهِ وَمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ، وَيَبْغُونَ أَنْ تَكُونَ السَّبِيلُ مُعْوَجَّةً غَيْرَ مُسْتَقِيمَةٍ حَتَّى لَا يَتَّبِعَهَا أَحَدٌ، ﴿وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ﴾ أَيْ وَهُمْ بِلِقَاءِ اللَّهِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ كَافِرُونَ أَيْ جَاحِدُونَ مُكَذِّبُونَ بِذَلِكَ لَا يُصَدِّقُونَهُ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِهِ، فَلِهَذَا لَا يُبَالُونَ بِمَا يَأْتُونَ مِنْ مُنْكَرٍ مِنَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ لِأَنَّهُمْ لَا يَخَافُونَ حِسَابًا عَلَيْهِ وَلَا عِقَابًا، فهم شر الناس أقوالًا وأعمالًا.
– ٤٧ – وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَآءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مُخَاطَبَةَ أَهْلِ الْجَنَّةِ مَعَ أَهْلِ النَّارِ، نَبَّهَ أَنَّ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ حِجَابًا، وَهُوَ الْحَاجِزُ الْمَانِعُ مِنْ وُصُولِ أَهْلِ النَّارِ إِلَى الْجَنَّةِ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَهُوَ السُّورُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تعالى فيه: ﴿فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ باب﴾ وهو الأعراف الذي قال الله تعالى فيه: ﴿وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ﴾، ثُمَّ رَوَى بِإِسْنَادِهِ عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
وعن ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: يُحَاسَبُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَمَنْ كَانَتْ حَسَنَاتُهُ أَكْثَرَ مِنْ سَيِّئَاتِهِ بِوَاحِدَةٍ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ كَانَتْ سَيِّئَاتُهُ أَكْثَرَ مِنْ حَسَنَاتِهِ بِوَاحِدَةٍ دَخَلَ النَّارَ، ثُمَّ قَرَأَ قَوْلَ الله: ﴿فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ﴾ الآيتين، ثم قال: الْمِيزَانَ يَخِفُّ بِمِثْقَالِ حَبَّةٍ، وَيَرْجَحُ، قَالَ: وَمَنِ اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُ وَسَيِّئَاتُهُ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْأَعْرَافِ فَوَقَفُوا عَلَى الصِّرَاطِ ثُمَّ عَرَفُوا أَهْلَ الْجَنَّةِ وَأَهْلَ النَّارِ فَإِذَا نَظَرُوا إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ نَادَوْا: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، وَإِذَا صَرَفُوا أَبْصَارَهُمْ إِلَى يسارهم ونظروا إلى أهل النَّارِ ﴿قَالُوا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظالمين﴾ تعوذوا بِاللَّهِ مِنْ مَنَازِلِهِمْ، قَالَ: فَأَمَّا أَصْحَابُ الْحَسَنَاتِ فإنهم يعطون نورًا يمشون بِهِ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم، وَيُعْطَى كُلُّ عَبْدٍ يَوْمَئِذٍ نُورًا، وَكُلُّ أُمَّةٍ نُورًا فَإِذَا أَتَوْا عَلَى الصِّرَاطِ سَلَبَ اللَّهُ نُورَ كُلِّ مُنَافِقٍ وَمُنَافِقَةٍ، فَلَمَّا رَأَى أَهْلُ الْجَنَّةِ مَا لَقِيَ المنافقون قالوا: ﴿رَبَّنَآ أَتْمِمْ لنا نورنا﴾، وأما أصحاب الأعراف فإن النور كان بأيديهم فَلَمْ يُنْزَعْ، فَهُنَالِكَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ﴾ فَكَانَ الطَّمَعُ دُخُولًا، قَالَ: فقال ابن مسعود أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا عَمِلَ حَسَنَةً كُتِبَ لَهُ بِهَا عَشْرٌ، وَإِذَا عَمِلَ سَيِّئَةً لَمْ تُكْتَبْ إِلَّا وَاحِدَةً، ثُمَّ يَقُولُ: هَلَكَ مَنْ غَلَبَتْ آحاده عشراته (رواه ابن جرير عن ابن مسعود موقوفًا)، وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ أَصْحَابِ الْأَعْرَافِ؟ قَالَ: «هُمْ آخِرُ مَنْ يُفْصَلُ بَيْنَهُمْ مِنَ الْعِبَادِ، فَإِذَا فَرَغَ رَبُّ العالمين من الفصل بَيْنَ الْعِبَادِ، قَالَ: أَنْتُمْ قَوْمٌ أَخْرَجَتْكُمْ حَسَنَاتُكُمْ مِنَ النَّارِ، وَلَمْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ، فَأَنْتُمْ عُتَقَائِي، فارعوا مِنَ الجنة حَيْثُ شئتم» (قال ابن كثير: هذا مرسل حسن).
وَقَدْ حَكَى الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ فِيهِمُ اثْنَيْ عَشْرَ قولًا، وقوله تعالى: ﴿يَعْرِفُونَ كُلًاّ بِسِيمَاهُمْ﴾، قال ابن عباس: يَعْرِفُونَ أَهْلَ الْجَنَّةِ بِبَيَاضِ الْوُجُوهِ، وَأَهْلَ النَّارِ بسواد الوجوه، وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنْزَلَهُمُ اللَّهُ بِتِلْكَ الْمَنْزِلَةِ لِيَعْرِفُوا مَن فِي الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَلِيَعْرِفُوا أَهْلَ النَّارِ بِسَوَادِ الْوُجُوهِ، وَيَتَعَوَّذُوا بِاللَّهِ أَنْ يَجْعَلَهُمْ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ يُحَيُّونَ أَهْلَ الْجَنَّةِ بِالسَّلَامِ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ أَنْ يَدْخُلُوهَا، وَهُمْ دَاخِلُوهَا إِنْ شاء الله، وقال الْحَسَنِ إِنَّهُ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ﴾ قَالَ: وَاللَّهِ مَا جَعَلَ ذَلِكَ الطَّمَعَ فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا لِكَرَامَةٍ يُرِيدُهَا
– ٤٩ – أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ
يقول الله تعالى إخبارًا عَنْ تَقْرِيعِ أَهْلِ الْأَعْرَافِ لِرِجَالٍ مِنْ صَنَادِيدِ الْمُشْرِكِينَ وَقَادَتِهِمْ يَعْرِفُونَهُمْ فِي النَّارِ بِسِيمَاهُمْ ﴿مَآ أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ﴾ أَيْ كَثْرَتُكُمْ، ﴿وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ﴾ أَيْ لَا يَنْفَعُكُمْ كَثْرَتُكُمْ وَلَا جُمُوعُكُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ بَلْ صِرْتُمْ إِلَى مَا أنتم فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ، ﴿أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ﴾، قال ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْنِي أَصْحَابَ الْأَعْرَافِ ﴿ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ﴾، وَقَالَ ابن جرير عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ﴿قَالُوا مَآ أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ﴾ الْآيَةَ، قَالَ: فَلَمَّا قَالُوا لَهُمُ الَّذِي قَضَى اللَّهُ أَنْ يَقُولُوا يَعْنِي أَصْحَابَ الْأَعْرَافِ لِأَهْلِ الجنة وأهل النار، قال الله لِأَهْلِ التَّكَبُّرِ وَالْأَمْوَالِ: ﴿أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ﴾.
– ٥١ – الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ ذِلَّةِ أَهْلِ النَّارِ وَسُؤَالِهِمْ أَهْلَ الْجَنَّةِ مِنْ شَرَابِهِمْ وَطَعَامِهِمْ وَأَنَّهُمْ لَا يُجَابُونَ إِلَى ذَلِكَ، قال السدي: ﴿أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رزقكم الله﴾ يعني الطعام، وقال ابن أسلم: يستطعمونهم ويستسقونهم، وقال سعيد بن جبير: ينادي الرجل أباه أو أخاه فيقول له: قد احترقت، فأفض عليَّ مِنَ الْمَاءِ، فَيُقَالُ لَهُمْ أَجِيبُوهُمْ، فَيَقُولُونَ: ﴿إِنَّ الله حَرَّمَهُمَا عَلَى الكافرين﴾، قال ابن أَسْلَمَ ﴿إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ﴾: يَعْنِي طعام الجنة وشرابها، وسئل ابن عباس أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ الْمَاءُ، أَلَمْ تَسْمَعْ إِلَى أَهْلِ النَّارِ لَمَّا اسْتَغَاثُوا بِأَهْلِ الْجَنَّةِ، قَالُوا: أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله» (رواه ابن أبي حاتم)؟ ثُمَّ وَصَفَ تَعَالَى الْكَافِرِينَ بِمَا كَانُوا
– ٥٣ – هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ إِعْذَارِهِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ بِإِرْسَالِ الرسل إِلَيْهِمْ بِالْكِتَابِ الَّذِي جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، وَأَنَّهُ كتاب مفصل مبين كقوله: ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فصلت﴾ الآية، وقوله: ﴿فَصَّلْنَاهُ على عِلْمٍ﴾ للعالمين، أَيْ عَلَى عِلْمٍ مِنَّا بِمَا فَصَّلْنَاهُ بِهِ كقوله: ﴿أَنزَلَهُ بعلمه﴾، ولما أخبر بما صاروا إليه من الخسارة في الْآخِرَةِ، ذَكَرَ أَنَّهُ قَدْ أَزَاحَ عِلَلَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ كَقَوْلِهِ: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ﴾ أَيْ ما وعدوا به مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَقَالَ مَالِكٌ: ثَوَابَهُ، وَقَالَ الرَّبِيعُ: لا يزال يجيء من تَأْوِيلُهُ أَمْرٌ حَتَّى يَتِمَّ يَوْمَ الْحِسَابِ، حَتَّى يَدْخُلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ، فيتم تأويله يومئذ، قوله: ﴿يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ﴾ أي يوم القيامة، ﴿يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ﴾ أَيْ تَرَكُوا الْعَمَلَ بِهِ وَتَنَاسَوْهُ فِي الدَّارِ الدُّنْيَا، ﴿قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ﴾ أَيْ فِي خَلَاصِنَا مِمَّا صرنا إليه مِمَّا نَحْنُ فِيهِ ﴿أَوْ نُرَدُّ﴾ إِلَى الدَّارِ الدنيا ﴿فَنَعْمَلَ غَيْرَ الذي كُنَّا نَعْمَلُ﴾، كَقَوْلِهِ: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وإنهم لكاذبون﴾ كما قال ههنا: ﴿قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ﴾ أي خسروا أنفسهم بدخولهم النار وخلودهم فيها، ﴿وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ﴾ أَيْ ذَهَبَ عنهم مَّا كانوا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله فلا يشفعون فيهم ولا ينصروهم وَلَا يُنْقِذُونَهُمْ مِمَّا هُمْ فِيهِ.
يخبر تعالى أنه خالق الْعَالَمَ؛ سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضَهُ وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ فِي غَيْرِ ما آية من القرآن، وَاخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ هَلْ كَلُّ يَوْمٍ مِنْهَا كَهَذِهِ الْأَيَّامِ كَمَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ إِلَى الْأَذْهَانِ؟ أَوْ كُلُّ يَوْمٍ كَأَلْفِ سَنَةٍ كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ مُجَاهِدٌ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حنبل؟ فَأَمَّا يَوْمُ السَّبْتَ فَلَمْ يَقَعْ فِيهِ خَلْقٌ لِأَنَّهُ الْيَوْمُ السَّابِعُ، وَمِنْهُ سُمِّيَ السَّبْتُ، وَهُوَ القطع. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ فَلِلنَّاسِ فِي هَذَا الْمَقَامِ مَقَالَاتٌ كَثِيرَةٌ جِدًّا، ليس هذا موضع بسطها،
وإنما نسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح وَهُوَ إِمْرَارُهَا، كَمَا جَاءَتْ مِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَشْبِيهٍ وَلَا تَعْطِيلٍ، وَالظَّاهِرُ الْمُتَبَادَرُ إِلَى أَذْهَانِ الْمُشَبِّهِينَ مَنْفِيٌّ عَنِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ وَ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السميع البصير﴾، بل الأمر كما قال (نعيم بن حماد الخزاعي) شيخ البخاري قال: من شبَّه الله بخلقه كَفَرَ، وَمَنْ جَحَدَ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ فَقَدْ كَفَرَ، وَلَيْسَ فِيمَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ وَلَا رَسُولَهُ تَشْبِيهٌ فَمَنْ أَثْبَتَ لِلَّهِ تَعَالَى مَا وَرَدَتْ بِهِ الْآيَاتُ الصَّرِيحَةُ وَالْأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَلِيقُ بِجَلَالِ الله، وَنَفَى عَنِ اللَّهِ تَعَالَى النَّقَائِصَ، فَقَدْ سَلَكَ سَبِيلَ الْهُدَى. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا﴾ أَيْ يَذْهَبُ ظَلَامُ هَذَا بِضِيَاءِ هَذَا، وَضِيَاءُ هَذَا بِظَلَامِ هَذَا، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَطْلُبُ الْآخَرَ طَلَبًا حثيثاُ أَيْ سَرِيعًا لَا يَتَأَخَّرُ عَنْهُ،
بَلْ إِذَا ذَهَبَ هَذَا جَاءَ هذا وعكسه، كقوله: ﴿وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ﴾، إلى قَوْلِهِ: ﴿لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾، فَقَوْلُهُ: ﴿وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ﴾ أَيْ لَا يَفُوتُهُ بِوَقْتٍ يَتَأَخَّرُ عَنْهُ بَلْ هُوَ فِي أثره بلا وَاسِطَةَ بَيْنَهُمَا، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ﴾ أَيِ الْجَمِيعُ تَحْتَ قَهْرِهِ وَتَسْخِيرِهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَلِهَذَا قَالَ مُنَبِّهًا: ﴿أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ﴾ أَيْ لَهُ الْمُلْكُ وَالتَّصَرُّفُ ﴿تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾، كقوله: ﴿تَبَارَكَ الذي جَعَلَ فِي السماء بُرُوجًا﴾ الآية، وفي الحديث: «مَنْ لَمْ يَحْمَدِ اللَّهَ عَلَى مَا عَمِلَ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ وَحَمِدَ نَفْسَهُ فَقَدْ كَفَرَ وَحَبِطَ عَمَلُهُ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ لِلْعِبَادِ مِنَ الْأَمْرِ شَيْئًا فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى أَنْبِيَائِهِ»، لِقَوْلِهِ: ﴿أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ العالمين﴾ (رواه ابن جرير)، وَفِي الدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَرَوِيَ مَرْفُوعًا: «اللَّهُمَّ لَكَ الْمُلْكُ كُلُّهُ، وَلَكَ الْحَمْدُ كُلُّهُ، وَإِلَيْكَ يَرْجِعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ، أَسْأَلُكَ مِنَ الْخَيْرِ كُلِّهِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّرِّ كُلِّهِ».
– ٥٦ – وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ المحسنين
أرشدك تبارك وتعالى عِبَادَهُ إِلَى دُعَائِهِ الَّذِي هُوَ صَلَاحُهُمْ في دنياهم وأخراهم، فقال: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً﴾، قِيلَ مَعْنَاهُ: تَذَلُّلًا واستكانة وخفية، كقوله: ﴿واذكر رَّبَّكَ في نفسك﴾ الآية، وفي الصحيحن عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: رَفَعَ النَّاسُ أَصْوَاتَهُمْ بِالدُّعَاءِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ
وقال الإمام أحمد أَنَّ سَعْدًا سَمِعَ ابْنًا لَهُ يَدْعُو وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَنَعِيمَهَا وَإِسْتَبْرَقَهَا، وَنَحْوًا مِنْ هَذَا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ وَسَلَاسِلِهَا وَأَغْلَالِهَا، فَقَالَ: لَقَدْ سَأَلْتَ اللَّهَ خَيْرًا كثيرًا، وتعوذت به مِنْ شَرٍّ كَثِيرٍ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «إِنَّهُ سَيَكُونُ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الدُّعَاءِ، وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا﴾ الآية – وَإِنَّ بِحَسْبِكَ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قولٍ أَوْ عَمَلٍ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ وَمَا قَرَّبَ إليها من قولٍ أو عمل» (رواه أحمد وأبو داود)، وسمع عبد الله بن مغفل ابْنَهُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْقَصْرَ الْأَبْيَضَ عَنْ يَمِينِ الْجَنَّةِ إِذَا دَخَلْتُهَا، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ سَلِ اللَّهَ الْجَنَّةَ وعُذْ بِهِ مِنَ النَّارِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «يَكُونُ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الدعاء والطهور» (رواه أحمد وابن ماجه وأبو داود قال ابن كثير: وإسناده حسن)، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا﴾ يَنْهَى تَعَالَى عَنِ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَمَا أَضَرَّهُ بَعْدَ الْإِصْلَاحِ! فَإِنَّهُ إِذَا كَانَتِ الْأُمُورُ مَاشِيَةً عَلَى السَّدَادِ، ثُمَّ وَقَعَ الْإِفْسَادُ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ أَضَرَّ مَا يَكُونُ عَلَى العباد، فنهى تعالى عن ذلك وأمر بعبادته وَالتَّضَرُّعِ إِلَيْهِ وَالتَّذَلُّلِ لَدَيْهِ، فَقَالَ: ﴿وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا﴾ أَيْ خَوْفًا مِمَّا عِنْدَهُ مِنْ وَبِيلِ الْعِقَابِ وَطَمَعًا فِيمَا عِنْدَهُ مِنْ جَزِيلِ الثَّوَابِ، ثُمَّ قَالَ: ﴿إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ أَيْ إِنَّ رَحْمَتَهُ مُرْصَدَةٌ لِلْمُحْسِنِينَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ أَوَامِرَهُ وَيَتْرُكُونَ زَوَاجِرَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ الآية، وَقَالَ: ﴿قَرِيبٌ﴾ وَلَمْ يَقُلْ: (قَرِيبَةٌ) لِأَنَّهُ ضَمَّنَ الرَّحْمَةَ مَعْنَى الثَّوَابِ، أَوْ لِأَنَّهَا مُضَافَةٌ إِلَى اللَّهِ، فَلِهَذَا قَالَ: قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ. وَقَالَ مطر الوراق: استنجزوا مَوْعُودَ اللَّهِ بِطَاعَتِهِ، فَإِنَّهُ قَضَى أَنَّ رَحْمَتَهُ قريب من المحسنين.
– ٥٨ – وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ
وَأَسْلَمْتُ وجْهِي لمن أسلمت * له المزن تحمل عذابًا زلالا
وقوله تعالى: ﴿سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ﴾ أَيْ إِلَى أَرْضٍ مَيِّتَةٍ مجدبة لا نبات فيها، كقوله: ﴿وَآيَةٌ لَّهُمُ الأرض الميتة أحييناها﴾ الآية، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى﴾ أَيْ كَمَا أَحْيَيْنَا هَذِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا، كَذَلِكَ نُحْيِي الْأَجْسَادَ بَعْدَ صَيْرُورَتِهَا رَمِيمًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يُنَزِّلُ اللَّهُ سبحانه وتعالى مَاءً مِنَ السَّمَاءِ فَتُمْطِرُ الْأَرْضَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَتَنْبُتُ مِنْهُ الْأَجْسَادُ فِي قُبُورِهَا كَمَا يَنْبُتُ الْحَبُّ فِي الْأَرْضِ، وَهَذَا الْمَعْنَى كَثِيرٌ في القرآن، يضرب الله مثلًا ليوم القيامة بِإِحْيَاءِ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾،
وَقَوْلُهُ: ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ﴾ أَيْ وَالْأَرْضُ الطَّيِّبَةُ يَخْرُجُ نَبَاتُهَا سَرِيعًا حسنًا كقوله: ﴿وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا﴾، ﴿وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا﴾، قَالَ مجاهد وغير: كالسباخ ونحوها، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ: هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ الله للمؤمن والكافرن وقال البخاري عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَثَلُ مَا بعثني الله به من العلم والهدى كمثل الغيث الكثير أصاب أرضًا، فكانت منه نقية قبلت الماء فأنبت الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبَ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى، إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أرسلت به».
– ٦٠ – قَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ
– ٦١ – قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَبِّ الْعَالَمِينَ
– ٦٢ – أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى قِصَّةَ آدَمَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ وَفَرَغَ مِنْهُ، شَرَعَ تَعَالَى فِي ذِكْرِ قِصَصِ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام: الْأَوَّلِ، فَالْأَوَّلِ، فَابْتَدَأَ بِذِكْرِ نُوحٍ عليه السلام، فَإِنَّهُ أَوَّلُ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ بَعْدَ آدَمَ عليه السلام. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمْ يَلْقَ نَبِيٌّ مِنْ قَوْمِهِ مِنَ الْأَذَى مِثْلَ نُوحٍ إِلَّا نَبِيٌّ قُتِلَ، وَقَالَ يَزِيدُ الرَّقَاشِيُّ: إِنَّمَا سُمِّيَ نُوحًا لِكَثْرَةِ مَا نَاحَ عَلَى نَفْسِهِ، وَقَدْ كَانَ بَيْنَ آدَمَ إِلَى زَمَنِ نُوحٍ عليهما السلام عشرة قرون كلهم
﴿أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾،
وَهَذَا شَأْنُ الرَّسُولِ أن يكون مبلغًا فصيحًا ناصحًا عالمًا بِاللَّهِ لَا يُدْرِكُهُمْ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ، كَمَا جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قال لأصحابه يوم عرفة: «أيها الناس إنكم مسؤولون عَنِّي، فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟» قَالُواْ: نَشْهَدُ إِنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ، فَجَعَلَ يَرْفَعُ إِصْبَعَهُ إلى السماء وينكسها عَلَيْهِمْ وَيَقُولُ: «اللَّهُمَّ اشْهَدْ، اللَّهُمَّ اشْهَدْ».
– ٦٤ – فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمًا عَمِينَ
يَقُولُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ نُوحٍ أَنَّهُ قَالَ لِقَوْمِهِ: ﴿أَوَ عَجِبْتُمْ﴾ الآية، أَيْ لَا تَعْجَبُوا مِنْ هَذَا، فَإِنَّ هَذَا ليس بعجب أَنْ يُوحِيَ اللَّهُ إِلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ رَحْمَةً بكم ولطفًا وإحسانًا إليكم لينذركم،
وَلِتَتَّقُوا نِقْمَةَ اللَّهِ، وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ ﴿وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾، قال الله تعالى: ﴿فَكَذَّبُوهُ﴾ أي تمادوا عَلَى تَكْذِيبِهِ وَمُخَالَفَتِهِ، وَمَا آمَنُ مَعَهُ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي مَوْضِعٍ آخر، ﴿فَأَنجَيْنَاهُ والذين مَعَهُ فِي الفلك﴾ أي السفينة، كما قال: ﴿فأَنْجَيْناهُ وأَصْحَابَ السفينة﴾، ﴿وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ﴾، كَمَا قَالَ: ﴿مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَارًا فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ من دون الله أنصارًا﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمًا عَمِين﴾ أَيْ عَنِ الْحَقِّ لَا يُبْصِرُونَهُ وَلَا يَهْتَدُونَ لَهُ، فَبَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّهُ انْتَقَمَ لِأَوْلِيَائِهِ مِنْ أَعْدَائِهِ وَأَنْجَى رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَأَهْلَكَ أَعْدَاءَهُمْ من الكافرين، كقوله: ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا﴾ الآية، وَهَذِهِ سُنَّةَ اللَّهِ فِي عِبَادِهِ فِي الدُّنْيَا والآخرة، أن العاقبة فيها لِلْمُتَّقِينَ وَالظَّفَرَ وَالْغَلَبَ لَهُمْ، كَمَا أَهْلَكَ قَوْمَ نوح بالغرق ونجى نوحًا وأصحابه المؤمنين، وكان قَوْمُ نُوحٍ قَدْ ضَاقَ بِهِمُ السَّهْلُ وَالْجَبَلُ، وقال ابن أسلم: ما عذب الله قوم نوح إِلَّا وَالْأَرْضُ مَلْأَى بِهِمْ، وَلَيْسَ بُقْعَةٌ مِنَ الْأَرْضِ إِلَّا وَلَهَا مَالِكٌ وَحَائِزٌ. وَقَالَ ابْنُ وهب: بلغني عن ابن عباس أنه نجي مع نوح فِي السَّفِينَةِ ثَمَانُونَ رَجُلًا أَحَدُهُمْ جُرْهُمُ، وَكَانَ لسانه عربيًا (رواه ابن أبي حاتم).
– ٦٦ – قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ
– ٦٧ – قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَبِّ الْعَالَمِينَ
– ٦٨ – أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ
– ٦٩ – أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الخلق بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلآءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
يَقُولُ تَعَالَى: وَكَمَا أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمٍ نُوحٍ نُوحًا كَذَلِكَ أرسلنا إلى عَادٍ أخاهم هودًا، وَهَؤُلَاءِ هُمْ عَادٌ الْأُولَى الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ، وهم أولاد عاد بن غرم الَّذِينَ كَانُوا يَأْوُونَ إِلَى الْعُمُدِ فِي الْبَرِّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلاد﴾ وَذَلِكَ لِشِدَّةِ بَأْسِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً﴾؟ وقد كانت مساكنهم باليمن بالأحقاف، فإن هُودًا عليه السلام دُفِنَ هُنَاكَ، وَقَدْ كَانَ من أشرف قومه نسبًا، لأن الرسل إِنَّمَا يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ مِنْ أَفْضَلِ الْقَبَائِلِ وَأَشْرَفِهِمْ، وَلَكِنْ كَانَ قَوْمُهُ كَمَا شُدِّدَ خَلْقُهُمْ شُدِّدَ على قلوبهم، وكانو مِنْ أَشَدِّ الْأُمَمِ تَكْذِيبًا لِلْحَقِّ، وَلِهَذَا دَعَاهُمْ هُودٌ عليه السلام إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَإِلَى طَاعَتِهِ وَتَقْوَاهُ، ﴿قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ﴾ – وَالْمَلَأُ هُمَ الْجُمْهُورُ وَالسَّادَةُ وَالْقَادَةُ مِنْهُمْ – ﴿إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لنظك مِنَ الكاذبين﴾ أي في ضلالة حيث تدعونا إلى ترك عبادة الأصنام والإقبال على عبادة الله وحده،
كَمَا تَعَجَّبَ الْمَلَأُ مِنْ قُرَيْشٍ مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى إِلَهٍ وَاحِدٍ فَقَالُوا: ﴿أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا واحدا﴾؟ الآية،
﴿قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ أَيْ لَسْتُ كَمَا تَزْعُمُونَ، بَلْ جِئْتُكُمْ بِالْحَقِّ مِنَ اللَّهِ الَّذِي خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ، ﴿أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ﴾، وَهَذِهِ الصِّفَاتُ الَّتِي يَتَّصِفُ بِهَا الرُّسُلُ البلاغ والنصح والأمانة، ﴿أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ﴾ أَيْ لَا تَعْجَبُوا أَنْ بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ أَيَّامَ اللَّهِ وَلِقَاءَهُ، بَلِ احْمَدُوا اللَّهَ عَلَى ذَاكُمْ، ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ﴾، أي واذكروا نِعْمَةَ الله عليكم في جَعَلَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ الَّذِي أَهْلَكَ اللَّهُ أَهْلَ الْأَرْضِ بِدَعْوَتِهِ لَمَّا خَالَفُوهُ وَكَذَّبُوهُ، ﴿وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً﴾ أَيْ زَادَ طُولَكُمْ عَلَى النَّاسِ بَسْطَةً أَيْ جَعَلَكُمْ أَطْوَلَ مِنْ أَبْنَاءِ جنسكم، كقوله فِي قِصَّةِ طَالُوتَ: ﴿وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ والجسم﴾ ﴿واذكروا آلآءَ اللَّهِ﴾ أَيْ نِعَمَهُ وَمِنَنَهُ عَلَيْكُمْ ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾.
– ٧١ – قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ
– ٧٢ – فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الذين
يخبر تعالى عَنْ تَمَرُّدِهِمْ وَطُغْيَانِهِمْ وَعِنَادِهِمْ وَإِنْكَارِهِمْ عَلَى هُودٍ عليه السلام، ﴿قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ﴾ الآية، كقول الكفار من قُرَيْشٌ: ﴿اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾. وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ: أَنَّهُمْ كانوا يعبدون أصنامًا، فصنم يقال له: صمد، وَآخَرُ يُقَالُ لَهُ: صَمُودٌ، وَآخَرُ يُقَالُ لَهُ: الْهَبَاءُ، وَلِهَذَا قَالَ هُودٌ عليه السلام: ﴿قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ﴾ أَيْ قَدْ وَجَبَ عَلَيْكُمْ بِمَقَالَتِكُمْ هَذِهِ مِنْ رَبِّكُمْ رجس، معناه سخط وَغَضَبٌ ﴿أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ﴾ أَيْ أَتُحَاجُّونِي فِي هَذِهِ الْأَصْنَامِ الَّتِي سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم آلِهَةً وَهِيَ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَى عِبَادَتِهَا حُجَّةً وَلَا دَلِيلًا، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ * فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ﴾ وَهَذَا تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ مِنَ الرَّسُولِ لقومه، ولهذا عقّبه بُقُولِهِ: ﴿فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ﴾ وقد ذكر الله سبحانه صفة إهلاكم فِي أَمَاكِنَ أُخَرَ مِنَ الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ أَرْسَلَ عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ ﴿مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ﴾، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: ﴿وَأَمَا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ﴾ لَمَّا تَمَرَّدُوا وَعَتَوْا أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بِرِيحٍ عَاتِيَةٍ فَكَانَتْ تَحْمِلُ الرَّجُلَ مِنْهُمْ فَتَرْفَعُهُ فِي الْهَوَاءِ ثُمَّ تُنَكِّسُهُ عَلَى أُمِّ رَأْسِهِ، فَتَثْلَغُ رَأْسَهُ حَتَّى تُبِينَهُ مِنْ جُثَّتِهِ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ﴾. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: كانوا يسكنون باليمن بين عَمَّانَ وَحَضْرَمَوْتَ، وَكَانُوا مَعَ ذَلِكَ قَدْ فَشَوْا فِي الْأَرْضِ وَقَهَرُوا أَهْلَهَا بِفَضْلِ قُوَّتِهِمُ الَّتِي آتَاهُمُ اللَّهُ، وَكَانُوا أَصْحَابَ أَوْثَانٍ يَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ هُودًا عليه السلام، وَهُوَ مِنْ أَوْسَطِهِمْ نَسَبًا وَأَفْضَلِهِمْ مَوْضِعًا، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يُوَحِّدُوا اللَّهَ وَلَا يَجْعَلُوا مَعَهُ إِلَهًا غَيْرَهُ، وَأَنْ يَكُفُّوا عَنْ ظُلْمِ النَّاسِ، فَأَبَوْا عَلَيْهِ وَكَذَّبُوهُ، وَقَالُواْ: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قوة؟ واتبعه منهم ناس – وهم يسير – يكتمون إيمانهم، فَلَمَّا عَتَتْ عَادٌ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبُوا نَبِيَّهُ، وَأَكْثَرُوا فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ وَتَجَبَّرُوا، وَبَنَوْا بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً عَبَثًا بِغَيْرِ نَفْعٍ كَلَّمَهُمْ هُودٌ فَقَالَ: ﴿أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ﴾ الآيات.
فَلَمَّا أَبَوْا إِلَّا الْكُفْرَ بِهِ أَمْسَكَ اللَّهُ عنهم القطر ثلاث سنين حتى جهدهم ذلك، وَكَانَ النَّاسُ إِذَا جَهَدَهُمْ أَمْرٌ فِي ذَلِكَ الزمان، وطلبوا من الله الفرج فيه إنما يطلبونه بحرمته ومكان بيته، وكان معروفًا عند أهل ذلك الزمان، وبه العماليق مقيمون، فبعث عَادٌ وَفْدًا قَرِيبًا مِنْ سَبْعِينَ رَجُلًا إِلَى الحرم، ليستقوا لهم عند الحرم فَنَهَضُوا إِلَى الْحَرَمِ، وَدَعَوْا لِقَوْمِهِمْ، فَدَعَا دَاعِيهِمْ، فَأَنْشَأَ اللَّهُ سَحَابَاتٍ ثَلَاثًا بَيْضَاءَ وَسَوْدَاءَ وَحَمْرَاءَ، ثم ناده مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: اخْتَرْ لِنَفْسِكَ أَوْ لِقَوْمِكَ مِنْ هَذَا السَّحَابِ فَقَالَ: اخْتَرْتُ هَذِهِ السَّحَابَةَ السَّوْدَاءَ، فَإِنَّهَا أَكْثَرُ السَّحَابِ مَاءً، فَنَادَاهُ مُنَادٍ: «اخترت رمادًا رمددًا، لا تبقي من عادًا أحدًا، لا والدًا ولا ولدًا، إلا جعلته همدًا». وساق الله السحابة السوداء بِمَا فِيهَا مِنَ النِّقْمَةِ إِلَى عَادٍ حَتَّى تخرج عليهم من واد، يقال لها الْمُغِيثُ، فَلَمَّا رَأَوْهَا اسْتَبْشَرُوا، وَقَالُوا: هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا، يَقُولُ: ﴿بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ﴾ أي تهلك كل شيء مرت به، فَسَخَّرَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا، كما قال الله تعالى،
والحسوم الدَّائِمَةُ، فَلَمْ تَدَعْ مِنْ عَادَ أَحَدًا إِلَّا هلك، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾،
– ٧٤ – وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلآءَ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ
– ٧٥ – قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَآ أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ
– ٧٦ – قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ
– ٧٧ – فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ
– ٧٨ – فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ
قَالَ عُلَمَاءُ التَّفْسِيرِ وَالنَّسَبِ: ثَمُودُ بْنُ عَاثِرَ بْنِ إِرَمَ بْنِ سَامَ بْنِ نُوحٍ، أحياء من العرب العارية قَبْلَ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عليه السلام، وَكَانَتْ ثَمُودُ بعد عاد، ومساكنهم مشهورة بَيْنَ الْحِجَازِ وَالشَّامِ إِلَى وَادِي الْقُرَى وَمَا حَوْلَهُ، وَقَدْ مرَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ على ديارهم ومساكنهم وهو ذاهب إلى تبوك في سنة تسع، قال الإمام أحمد عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِالنَّاسِ عَلَى تَبُوكَ، نَزَلَ بِهِمُ الْحِجْرَ عِنْدَ بُيُوتِ ثَمُودَ فاستقى النَّاسُ مِنَ الْآبَارِ الَّتِي كَانَتْ تَشْرَبُ مِنْهَا ثمود، فعجنوا منها، ونصبوا لها الْقُدُورَ، فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ فأهراقوا الْقُدُورَ، وَعَلَفُوا الْعَجِينَ الْإِبِلَ،
ثُمَّ ارْتَحَلَ بِهِمْ حَتَّى نَزَلَ بِهِمْ عَلَى الْبِئْرِ الَّتِي كَانَتْ تَشْرَبُ مِنْهَا النَّاقَةُ، وَنَهَاهُمْ أَنْ يَدْخُلُوا عَلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ عُذِّبُوا، وَقَالَ: «إِنِّي أَخْشَى أَنْ يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَآ أَصَابَهُمْ فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ». وقال أحمد أيضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وهو بِالْحِجْرِ: «لَا تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُعَذَّبِينَ إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَا أصابهم» (أصل هذا الحديث مخرج في الصحيحين). قوله تعالى: ﴿وإلى ثَمُودَ﴾ أَيْ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى قَبِيلَةِ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا ﴿قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ﴾، فجميع الرُّسُلِ يَدْعُونَ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ
وذكر ابن جرير وغيره من علماء التفسير: أن سبب قتلها أن امرأة منهم يقال لها (عنيزة) وتكنى أم عثمان، كَانَتْ عَجُوزًا كَافِرَةً، وَكَانَتْ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِصَالِحٍ عليه السلام، وَكَانَتْ لَهَا بَنَاتٌ حِسَانٌ وَمَالٌ جَزِيلٌ، وَكَانَ زَوْجُهَا (ذُؤَابُ بْنُ عَمْرٍو) أَحَدَ رُؤَسَاءِ ثَمُودَ، وَامْرَأَةً أُخْرَى يُقَالُ لها (صدقة) ذَاتِ حَسَبٍ وَمَالٍ وَجِمَالٍ، وَكَانَتْ تَحْتَ رَجُلٍ مسلم من ثمود ففارقته، فكانتا تجعلان جعلًا لمن التزم لهما بقتل الناقة فدعت صدقة رجلًا يقال له: الحباب، فعرضت عَلَيْهِ نَفْسَهَا إِنْ هُوَ عَقَرَ النَّاقَةَ، فَأَبَى عَلَيْهَا، فَدَعَتِ ابْنَ عَمٍّ لَهَا يُقَالُ لَهُ: (مصدع بْنِ الْمُحَيَّا) فَأَجَابَهَا إِلَى ذَلِكَ، وَدَعَتْ عُنَيْزَةُ بنت غنم (قدار بن سالف) وَكَانَ رَجُلًا أَحْمَرَ أَزْرَقَ قَصِيرًا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ كان ولد زانية، وَقَالَتْ لَهُ: أُعْطِيكَ أَيَّ بَنَاتِي شِئْتَ عَلَى أَنْ تَعْقِرَ النَّاقَةَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ انْطَلَقَ (قِدَارُ بن سالف) و(مصدع بن المحيا) فاستغويا غُوَاةً مِنْ ثَمُودَ، فَاتَّبَعَهُمَا سَبْعَةُ نَفَرٍ، فَصَارُوا تسعة رهط، وهم الذين قال فيهم اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأرض ولا يصلحون﴾ وَكَانُوا رُؤَسَاءَ فِي قَوْمِهِمْ، فَاسْتَمَالُوا الْقَبِيلَةَ الْكَافِرَةَ بِكَمَالِهَا، فَطَاوَعَتْهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَانْطَلَقُوا فَرَصَدُوا النَّاقَةَ حِينَ صَدَرَتْ عَنِ الْمَاءِ وَقَدْ كَمَنَ لَهَا (قدار بن سالف) فِي أَصْلِ صَخْرَةٍ عَلَى طَرِيقِهَا، وَكَمِنَ لَهَا مِصْدَعٌ فِي أَصْلِ أُخْرَى، فَمَرَّتْ عَلَى مِصْدَعٍ فَرَمَاهَا بِسَهْمٍ فَانْتَظَمَ بِهِ عَضَلَةُ سَاقِهَا، وَخَرَجَتْ بنت غَنْمٍ عُنَيْزَةُ، وَأَمَرَتِ ابْنَتَهَا – وَكَانَتْ مِنْ أَحْسَنِ الناس وجهًا – فسفرت عن وجهها لقدار وزمرته، وشد عليها قدار بالسيف فكشف عن عُرْقُوبَهَا، فَخَرَّتْ سَاقِطَةً إِلَى الْأَرْضِ، وَرَغَتْ رَغَاةً وَاحِدَةً تُحَذِّرُ سَقْبَهَا، ثُمَّ طَعَنَ فِي لَبَّتِهَا فَنَحَرَهَا، وَانْطَلَقَ سَقْبُهَا وَهُوَ فَصِيلُهَا حَتَّى أَتَى جَبَلًا مَنِيعًا، فَصَعَدَ أَعْلَى صَخْرَةٍ فِيهِ وَرَغَا.
هَذَا تَقْرِيعٌ مِنْ صَالِحٍ عليه السلام لقومه لما أهلكهم الله بمخالفته إِيَّاهُ وَتَمَرُّدِهِمْ عَلَى اللَّهِ، وَإِبَائِهِمْ عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ، وَإِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْهُدَى إِلَى الْعَمَى، قَالَ لَهُمْ صَالِحٌ ذَلِكَ بَعْدَ هَلَاكِهِمْ تَقْرِيعًا وَتَوْبِيخًا وَهُمْ يَسْمَعُونَ ذَلِكَ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وقف علىالقليب – قَلِيبِ بَدْرٍ – فَجَعَلَ يَقُولُ: «يَا أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، يَا عُتْبَةُ بْنَ رَبِيعَةَ، يَا شبية بْنَ رَبِيعَةَ، وَيَا فُلَانُ بْنَ فُلَانٍ، هَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ فَإِنِّي وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا» فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا تُكَلِّمُ مِنْ أَقْوَامٍ قَدْ جُيِّفُوا! فَقَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ، وَلَكِنْ لَا يجيبون» (وفي السيرة أنه ﷺ قال لهم: «بئس عشيرة القوم كُنْتُمْ لِنَبِيِّكُمْ، كَذَّبْتُمُونِي وَصَدَقَنِي النَّاسُ، وَأَخْرَجْتُمُونِي وَآوَانِي الناس، وقاتلتموني ونصرني الناس، فبئس عشيرة القوم كنتم لنبيكم»). وهكذا قال صالح عليه السلام لِقَوْمِهِ: ﴿لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ﴾ أَيْ فَلَمْ تَنْتَفِعُوا بِذَلِكَ لِأَنَّكُمْ لَا تُحِبُّونَ الْحَقَّ وَلَا تَتَّبِعُونَ نَاصِحًا، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ﴾، وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ هَلَكَتْ أُمَّتُهُ كَانَ يَذْهَبُ فيقيم في الحرم – حرم مكة – والله أعلم. وقد قال الإمام أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا مرَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِوَادِي عُسْفَانَ حِينَ حَجَّ قَالَ: «يَا أَبَا بَكْرٍ أَيُّ وَادٍ هَذَا؟» قَالَ هَذَا وَادِي عُسْفَانَ. قَالَ: «لَقَدْ مَرَّ بِهِ هُودٌ وَصَالِحٌ عليهما السلام على بكرات خطمهن اللِّيفُ، أُزُرُهُمُ الْعَبَاءُ، وَأَرْدِيَتُهُمُ النِّمَارُ، يُلَبُّونَ يَحُجُّونَ البيت العتيق» (أخرجه الإمام أحمد، قال ابن كثير: هذا حديث غريب من هذا الوجه).
– ٨١ – إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مسرفون
يقول تعالى (وَ) لقد أَرْسَلْنَا ﴿لُوطًا﴾ أَوْ تَقْدِيرُهُ (وَ) اذْكُرْ ﴿لُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ﴾ ولوط هو ابن هاران ابن آزَرَ، وَهُوَ ابْنُ أَخِي إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عليهما السلام وَكَانَ قَدْ آمَنَ مَعَ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام وَهَاجَرَ مَعَهُ إِلَى أَرْضِ الشَّامِ فَبَعَثَهُ الله إِلَى أَهْلِ سَدُومَ، وَمَا حَوْلَهَا مِنَ الْقُرَى، يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ عز وجل وَيَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَمَّا كَانُوا يَرْتَكِبُونَهُ مِنَ الْمَآثِمِ وَالْمَحَارِمِ وَالْفَوَاحِشِ الَّتِي اخْتَرَعُوهَا لَمْ يَسْبِقْهُمْ بِهَا أَحَدٌ مِنْ بَنِي آدَمَ وَلَا غَيْرِهِمْ، وَهُوَ إِتْيَانُ الذكور دون الإناث، وَهَذَا شَيْءٌ لَمْ يَكُنْ بَنُو آدَمَ تَعْهَدُهُ وَلَا تَأْلَفُهُ، وَلَا يَخْطُرُ بِبَالِهِمْ، حَتَّى صَنَعَ ذَلِكَ أَهْلُ سَدُومَ عَلَيْهِمْ لِعَائِنُ اللَّهِ. قَالَ عمرو بن دينار في قَوْلُهُ ﴿مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ﴾ قَالَ: مَا نَزَا ذَكَرٌ عَلَى ذَكَرٍ حتى كان يوم لوط؛ وقال الوليد بن عبد الملك: لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ عز وجل قَصَّ عَلَيْنَا خبر قوم لُوطٍ، مَا ظَنَنْتُ أَنَّ ذَكَرًا يَعْلُو ذَكَرًا، وَلِهَذَا قَالَ لَهُمْ لُوطٌ عليه السلام: ﴿أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ * إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاءِ﴾ أَيْ عَدَلْتُمْ عَنِ النِّسَاءِ وَمَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْهُنَّ إِلَى الرِّجَالِ، وَهَذَا إِسْرَافٌ مِنْكُمْ وَجَهْلٌ، لِأَنَّهُ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَحِلِّهِ، وَلِهَذَا قَالَ لَهُمْ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: ﴿هَؤُلآءِ بَنَاتِي إِن كُنْتُمْ فاعلين﴾ فَأَرْشَدَهُمْ إِلَى نِسَائِهِمْ فَاعْتَذَرُوا إِلَيْهِ بِأَنَّهُمْ لَا يَشْتَهُونَهُنَّ، ﴿قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ﴾ أَيْ لَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَا أَرَبَ لَنَا فِي النِّسَاءِ وَلَا إِرَادَةَ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مُرَادَنَا مِنْ أَضْيَافِكَ، وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ الرِّجَالَ كَانُوا قد استغنى بعضهم ببعضن وكذلك نساؤهم كن قد استغنين بَعْضُهُنَّ بِبَعْضٍ أَيْضًا.
أَيْ مَا أَجَابُوا لُوطًا إِلَّا أَنْ هَمُّوا بِإِخْرَاجِهِ ونفيه ومن معه مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ، فَأَخْرَجَهُ اللَّهُ تَعَالَى سَالِمًا وَأَهْلَكَهُمْ فِي أَرْضِهِمْ صَاغِرِينَ مُهَانِينَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾، قَالَ قَتَادَةُ: عَابُوهُمْ بِغَيْرِ عَيْبٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ مِنْ أَدْبَارِ الرِّجَالِ وَأَدْبَارِ النِّسَاءِ، وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا.
– ٨٤ – وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ
يَقُولُ تَعَالَى: فَأَنْجَيْنَا لُوطًا وَأَهْلَهُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ سِوَى أَهْلِ بَيْتِهِ فَقَطْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ المسلمين﴾ إِلَّا امْرَأَتَهُ فَإِنَّهَا لَمْ تُؤْمِنْ بِهِ، بَلْ كَانَتْ عَلَى دِينِ قَوْمِهَا تُمَالِئُهُمْ عَلَيْهِ، وَتُعْلِمُهُمْ بِمَنْ يَقْدَمُ عَلَيْهِ مِنْ ضِيفَانِهِ بِإِشَارَاتٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُمْ، وَلِهَذَا لَمَّا أُمِرَ لُوطٌ عليه السلام ليسري بأهله أمر أن لا يعلمها وَلَا يُخْرِجَهَا مِنَ الْبَلَدِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بَلِ اتَّبَعَتْهُمْ، فَلَمَّا جَاءَ الْعَذَابُ الْتَفَتَتْ هِيَ، فَأَصَابَهَا مَا أَصَابَهُمْ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا لَمْ تَخْرُجْ مِنَ الْبَلَدِ وَلَا أَعْلَمَهَا لُوطٌ بَلْ بَقِيَتْ معهم، ولهذا قال ههنا: ﴿إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ
مدين تطلق عَلَى الْقَبِيلَةِ وَعَلَى الْمَدِينَةِ، وَهِيَ الَّتِي بِقُرْبِ (معان) من طرق الحجاز (معان هي الآن بلدة شهيرة في شرق الأردن)، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً من الناس يسقون﴾ وَهُمْ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَبِهِ الثِّقَةُ، ﴿قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ هَذِهِ دَعْوَةُ الرُّسُلِ كُلِّهِمْ، ﴿قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ﴾، أَيْ قَدْ أَقَامَ اللَّهُ الْحُجَجَ وَالْبَيِّنَاتِ عَلَى صِدْقِ مَا جِئْتُكُمْ بِهِ، ثُمَّ وَعَظَهُمْ فِي مُعَامَلَتِهِمُ النَّاسَ بِأَنْ يُوفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ وَلَا يَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ، أَيْ لَا يَخُونُوا النَّاسَ فِي أَمْوَالِهِمْ وَيَأْخُذُوهَا عَلَى وَجْهِ الْبَخْسِ، وَهُوَ نَقْصُ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ خُفْيَةً وَتَدْلِيسًا، كَمَا قال تعالى: ﴿وَيْلٌ للمطففين – إلى قوله – لِرَبِّ العالمين﴾ وَهَذَا تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ وَوَعِيدٌ أَكِيدٌ، نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ شُعَيْبٍ الَّذِي يُقَالُ لَهُ (خَطِيبُ الْأَنْبِيَاءِ) لِفَصَاحَةِ عِبَارَتِهِ وَجَزَالَةِ مَوْعِظَتِهِ.
– ٨٧ – وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُواْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَآئِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ
يَنْهَاهُمْ شُعَيْبٌ عليه السلام عَنْ قَطْعِ الطَّرِيقِ الْحِسِّيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ بِقَوْلِهِ: ﴿وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ﴾ أي
– ٨٩ – قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ
هَذَا خبر مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَمَّا وَاجَهَتْ بِهِ الْكُفَّارُ نبيه شعيبًا ومن معه من المؤمنينن وتوعدهم إياه ومن معه بالنفي عن الْقَرْيَةِ أَوِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الرُّجُوعِ فِي مِلَّتِهِمْ وَالدُّخُولِ مَعَهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ، وَهَذَا خِطَابٌ مَعَ الرَّسُولِ؛ وَالْمُرَادُ أَتْبَاعُهُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ عَلَى الْمِلَّةِ، وَقَوْلُهُ: ﴿أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ﴾؟ يَقُولُ: أَوَ أَنْتُمْ فَاعِلُونَ ذَلِكَ وَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ مَا تَدْعُونَا إِلَيْهِ، فَإِنَّا إِنْ رَجَعْنَا إِلَى مِلَّتِكُمْ وَدَخَلْنَا مَعَكُمْ فِيمَا أَنْتُمْ فِيهِ فَقَدْ أَعْظَمْنَا الْفِرْيَةَ عَلَى اللَّهِ، فِي جَعْلِ الشُّرَكَاءِ معه اندادًا، وهذا تنفير منه على اتباعهم ﴿وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ رَبُّنَا﴾، وَهَذَا رَدٌّ إِلَى الله مستقيم فَإِنَّهُ يَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ وَقَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، ﴿عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا﴾ أَيْ فِي أُمُورِنَا مَا نَأْتِي مِنْهَا وَمَا نَذَرُ، ﴿رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق﴾، أي احكم بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ، ﴿وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ﴾ أَيْ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ، فَإِنَّكَ الْعَادِلُ الَّذِي لَا يَجُورُ أَبَدًا.
– ٩١ – فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ
– ٩٢ – الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَانُواْ هُمُ الْخَاسِرِينَ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ شِدَّةِ كفرهم وَتَمَرُّدِهِمْ وَعُتُوِّهِمْ وَمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الضَّلَالِ، وَمَا جُبِلَتْ عَلَيْهِ قُلُوبُهُمْ مِنَ الْمُخَالَفَةِ لِلْحَقِّ، وَلِهَذَا أَقْسَمُوا وَقَالُوا: ﴿لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ﴾، فلهذا عقبه بِقَوْلِهِ: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ﴾، أخبر تعالى هنا أنهم أخذتهم الرجفة، وذلك كما أرجفوا شعيبًا وأصحابه وتوعدهم بالجلاء
أَيْ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ شُعَيْبٌ عليه السلام بعدما أَصَابَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ وَالنِّقْمَةِ وَالنَّكَالِ، وَقَالَ مُقَرِّعًا لَهُمْ وَمُوَبِّخًا: ﴿يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ﴾ أَيْ قَدْ أَدَّيْتُ إِلَيْكُمْ ما أرسلت بهن فلا آسف عليكم وقد كفرتم بما جئتكم به، فلهذا قَالَ: ﴿فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ﴾؟ ..
– ٩٥ – ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَمَّا اخْتَبَرَ بِهِ الْأُمَمَ الْمَاضِيَةَ الَّذِينَ أَرْسَلَ إِلَيْهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ. يَعْنِي ﴿بِالْبَأْسَاءِ﴾ مَا يُصِيبُهُمْ فِي أَبْدَانِهِمْ مِنْ أَمْرَاضٍ وَأَسْقَامٍ، ﴿وَالضَّرَّاءِ﴾ مَا يُصِيبُهُمْ مِنْ فَقْرٍ وَحَاجَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ ﴿لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ﴾ أَيْ يَدْعُونَ وَيَخْشَعُونَ وَيَبْتَهِلُونَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي كَشْفِ مَا نَزَلَ بِهِمْ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: أَنَّهُ ابْتَلَاهُمْ بِالشِّدَّةِ لِيَتَضَرَّعُوا فَمَا فَعَلُوا شيئًا من الذي أراد منهم، فقلب عليهم الحال إلى الرخاء ليختبرهم فيهن وَلِهَذَا قَالَ: ﴿ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ﴾ أَيْ حَوَّلْنَا الْحَالَ مِنْ شِدَّةٍ إِلَى رَخَاءٍ، وَمِنْ مَرَضٍ وَسَقَمٍ إِلَى صِحَّةٍ وَعَافِيَةٍ، وَمِنْ فَقْرٍ إِلَى غِنًى، لِيَشْكُرُوا عَلَى ذَلِكَ فَمَا فَعَلُوا، وَقَوْلُهُ: ﴿حَتَّى عَفَوْاْ﴾ أَيْ كَثُرُوا وَكَثُرَتْ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ، يُقَالُ: عَفَا الشَّيْءُ إِذَا كَثُرَ. ﴿وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ﴾. يقول تعالى: ابتليناهم بِهَذَا وَهَذَا لِيَتَضَرَّعُوا وَيُنِيبُوا إِلَى اللَّهِ فَمَا نَجَعَ فِيهِمْ لَا هَذَا وَلَا هَذَا، وَلَا انتهوا بهذا ولا بهذا، وقالوا: قَدْ مَسَّنَا مِنَ الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ ثُمَّ بَعْدَهُ مِنَ الرَّخَاءِ مِثْلُ مَا أَصَابَ آبَاءَنَا فِي قديم الزمان والدهر، وإنما هو الدهر تارات وتارات، بل لم يَتَفَطَّنُوا لِأَمْرِ اللَّهِ فِيهِمْ وَلَا اسْتَشْعَرُوا ابْتِلَاءَ اللَّهِ لَهُمْ فِي الْحَالَيْنِ، وَهَذَا بِخِلَافِ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَشْكُرُونَ اللَّهَ عَلَى السَّرَّاءِ وَيَصْبِرُونَ عَلَى الضَّرَّاءِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: «عَجَبًا لِلْمُؤْمِنِ لَا يَقْضِي اللَّهُ لَهُ قَضَاءً إِلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ، إِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ» فَالْمُؤْمِنُ مَنْ يَتَفَطَّنُ لِمَا ابتلاه الله به من الضراء والسراء،
– ٩٧ – أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَآئِمُونَ
– ٩٨ – أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ
– ٩٩ – أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلاَّ القوم الخاسرون
يخبر تعالى عَنْ قِلَّةِ إِيمَانِ أَهْلِ الْقُرَى الَّذِينَ أَرْسَلَ فِيهِمُ الرُّسُلَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَآ إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ﴾ أَيْ مَا آمَنَتْ قَرْيَةٌ بِتَمَامِهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ فإنهم آمنوا، وذلك بعدما عاينوا العذاب، كما قال تعالى: ﴿فَآمَنُواْ فَمَتَّعْنَاهُمْ إلى حِينٍ﴾. وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نذير﴾ الآية، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ واتقوا﴾ أي آمنت قلوبهم بما جاء به الرسل، وصدقت به واتبعوه، وَاتَّقَوْا بِفِعْلِ الطَّاعَاتِ وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ ﴿لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾، أَيْ قَطْرَ السَّمَاءِ ونبات الأرض، وقال تَعَالَى: ﴿وَلَكِنْ كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ أَيْ وَلَكِنْ كَذَّبُوا رُسُلَهُمْ فَعَاقَبْنَاهُمْ بِالْهَلَاكِ عَلَى مَا كَسَبُوا مِنَ الْمَآثِمِ وَالْمَحَارِمِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُخَوِّفًا وَمُحَذِّرًا مِنْ مُخَالَفَةِ أَوَامِرِهِ وَالتَّجَرُّؤِ عَلَى زَوَاجِرِهِ ﴿أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى﴾ أَيِ الْكَافِرَةِ ﴿أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا﴾ أَيْ عَذَابُنَا وَنَكَالُنَا، ﴿بَيَاتًا﴾ أي ليلًا ﴿وَهُمْ نَآئِمُونَ * أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ﴾ أَيْ فِي حَالِ شُغْلِهِمْ وَغَفْلَتِهِمْ، ﴿أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللَّهِ﴾ أَيْ بَأْسَهُ وَنِقْمَتَهُ وَقُدْرَتَهُ عَلَيْهِمْ، وَأَخْذَهُ إِيَّاهُمْ فِي حَالِ سَهْوِهِمْ وَغَفْلَتِهِمْ، ﴿فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾، وَلِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رحمه الله: الْمُؤْمِنُ يَعْمَلُ بِالطَّاعَاتِ وَهُوَ مُشْفِقٌ وَجِلٌ خَائِفٌ، وَالْفَاجِرُ يَعْمَلُ بِالْمَعَاصِي وَهُوَ آمِنٌ.
قَالَ ابْنُ عباس المعنى: أولم يتبين لَهُمْ أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ، وَقَالَ ابن جرير في تفسيرها: أولم يتبين لِلَّذِينِ يُسْتَخْلَفُونَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِ إِهْلَاكِ آخَرِينَ قَبْلَهُمْ كَانُوا أَهْلَهَا فَسَارُوا سِيرَتَهُمْ، وَعَمِلُوا أَعْمَالَهُمْ، وَعَتَوْا عَلَى رَبِّهِمْ ﴿أَن لَّوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ﴾ يَقُولُ: أَنْ لَوْ نَشَاءُ فَعَلْنَا بِهِمْ كَمَا فَعَلْنَا بِمَنْ قَبْلِهِمْ، ﴿وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ يَقُولُ: وَنَخْتِمُ عَلَى قُلُوبِهِمْ، ﴿فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ﴾ موعظة ولا تذكيرًا. وَهَكَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا
– ١٠٢ – وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَآ أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ
لَمَّا قَصَّ تَعَالَى عَلَى نبيَّه ﷺ خَبَرَ قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وَمَا كَانَ مِنْ إِهْلَاكِهِ الْكَافِرِينَ وَإِنْجَائِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنَّهُ تَعَالَى أَعْذَرَ إِلَيْهِمْ بِأَنْ بَيَّنَ لَهُمُ الْحَقَّ بِالْحُجَجِ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، قَالَ تَعَالَى: ﴿تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ﴾ أَيْ يَا مُحَمَّدُ ﴿مِنْ أَنبَآئِهَا﴾ أَيْ مِنْ أَخْبَارِهَا، ﴿وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ﴾ أَيْ الحجج عَلَى صِدْقِهِمْ فِيمَا أَخْبَرُوهُمْ بِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قائم وحصيد﴾، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ﴾ الْبَاءُ سَبَبِيَّةٌ أَيْ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا جَاءَتْهُمْ بِهِ الرُّسُلُ بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمْ بالحق أول ما ورد عليهم، كَقَوْلِهِ: ﴿وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾، وَلِهَذَا قَالَ هُنَا: ﴿كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم﴾ أَيْ لِأَكْثَرِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ ﴿مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَآ أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ﴾ أَيْ وَلَقَدْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ فَاسِقِينَ، خَارِجِينَ عن الطاعة والامتثال. والعهد الذي أخذه هُوَ مَا جَبَلَهُمْ عَلَيْهِ وَفَطَرَهُمْ عَلَيْهِ،
وَأَخَذَ عليهم في الأصلاب أنه ربهم ومليكهم، فَخَالَفُوهُ وَتَرَكُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، وَعَبَدُوا مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ بِلَا دَلِيلٍ وَلَا حُجَّةٍ، لَا مِنْ عقل ولا شرع.
قال تعالى: ﴿واسأل من أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ﴾؟ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت﴾. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَقَدْ قِيلَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بما كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ﴾، عن أبي بن كعب قَالَ: كَانَ فِي عِلْمِهِ تَعَالَى يَوْمَ أَقَرُّوا لَهُ بِالْمِيثَاقِ، أَيْ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ لِعِلْمِ الله منهم ذلك، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقَالَ السُّدِّيُّ ﴿فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ﴾ قَالَ: ذَلِكَ يَوْمَ أَخَذَ مِنْهُمُ الْمِيثَاقَ فَآمَنُوا كَرْهًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: ﴿فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ﴾، هَذَا كَقَوْلِهِ: ﴿وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ﴾ الآية.
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم﴾ أَيِ الرُّسُلَ الْمُتَقَدِّمَ ذِكْرُهُمْ كَنُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَلُوطٍ وَشُعَيْبٍ صَلَوَاتُ ⦗٤٠⦘ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى سَائِرِ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ أَجْمَعِينَ، ﴿مُوسَى بِآيَاتِنَآ﴾ أي بحجتنا وَدَلَائِلِنَا الْبَيِّنَةِ إِلَى فِرْعَوْنَ – وَهُوَ مَلِكُ مِصْرَ فِي زَمَنِ مُوسَى – ﴿وَمَلَئِهِ﴾ أَيْ قَوْمِهِ، ﴿فَظَلَمُواْ بِهَا﴾ أَيْ جَحَدُوا وَكَفَرُوا بِهَا ظُلْمًا مِنْهُمْ وَعِنَادًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا﴾، ﴿فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾ أَيِ الَّذِينَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكَذَّبُوا رُسُلَهُ،
أَيِ انْظُرْ يَا مُحَمَّدُ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَأَغْرَقْنَاهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ بِمَرْأًى مِنْ مُوسَى وَقَوْمِهِ، وَهَذَا أَبْلَغُ فِي النَّكَالِ بِفِرْعَوْنِ وَقَوْمِهِ، وَأَشْفَى لِقُلُوبِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ مُوسَى وَقَوْمِهِ مِنَ المؤمنين به.
– ١٠٥ – حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ
– ١٠٦ – قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ
نبراس نور السيرة والتفسير